وسط مساعي كييف لتعزيز دفاعاتها قبل الشتاء، تشهد أوروبا تصعيدًا روسيًا يتجاوز حدود أوكرانيا، ما يضع القارة في “منطقة رمادية” بين الحرب والسلم، مع تكثف الهجمات السيبرانية، وحوادث التخريب والتجسس عبر الطائرات المسيرة.
تصاعد التوتر الأوروبي
كشف تحقيق لصحيفة “وول ستريت جورنال” عن موجة اختراقات جوية غير مسبوقة بطائرات مسيرة مجهولة المصدر في سماء أوروبا، يُشتبه في وقوف روسيا خلفها، ما يزيد من حالة التأهب.
في ألمانيا، سُجلت ثلاث اختراقات يومية فوق مواقع عسكرية وصناعية حساسة، وأُغلقت مطارات كبرى مؤقتًا، بينما يرى مراقبون أن هذه الحوادث ما هي إلا “قمة جبل الجليد” لحرب هجينة متصاعدة.
“اللايقين الاستراتيجي”
وصف المستشار الألماني فريدريش ميرتس الوضع الراهن قائلاً: “لسنا في حرب مع روسيا، لكننا لم نعد في سلام أيضًا”، ما يعكس حالة “اللايقين الاستراتيجي” التي تعيشها القارة في ظل تهديدات غير تقليدية.
بالمقابل، اتهم الكرملين الأوروبيين بخلق “أجواء عسكرية” في أوروبا، معتبراً أن القارة تستعد لمواجهة عسكرية مع روسيا، محذراً من التداعيات الاقتصادية المحتملة.
تآكل الردع الأوروبي
تتزامن الاتهامات الغربية لروسيا بالوقوف وراء الهجمات مع تقدم القوات الروسية في أوكرانيا وتراجع الدعم الغربي لكييف، حيث يرى محللون أن موسكو تسعى لتقويض الجبهة الداخلية الأوروبية وإضعاف حماسها لدعم أوكرانيا.
الأجهزة الأمنية الألمانية وثقت آلاف الحوادث المرتبطة بالطائرات المسيرة هذا العام، بما في ذلك تحليقها فوق مصانع أسلحة وبنى تحتية للطاقة، ما يشير إلى تورط جهات فاعلة منسقة.
صعوبات تقنية وقانونية
تواجه السلطات الأوروبية صعوبات تقنية وقانونية في التعامل مع التهديدات المتزايدة، إذ إن الكشف عن الطائرات الصغيرة منخفضة الارتفاع يمثل تحديًا، وإسقاطها في المناطق المأهولة يثير مشكلات أمنية وقضائية.
هذا الارتباك الإداري بين الشرطة والجيش وهيئات الطيران المدني دفع خبراء للتحذير من أن “الدول لم تعد تسيطر فعلياً على أجوائها”.
حرب معلوماتية متصاعدة
لا يقتصر التهديد على الجو، فالعام الماضي شهد سلسلة حوادث غامضة في المياه الأوروبية، بما في ذلك تخريب كابلات بحرية وأنابيب غاز، وسط اتهامات لموسكو بالسعي لإظهار قدرتها على ضرب نقاط ضعف أوروبا الحيوية.
وحدات الاستخبارات الأوروبية رصدت نشاطاً متزايداً لحملات التضليل الإعلامي عبر الإنترنت، حيث أكدت شركة “غوغل ثريت إنتليجنس” ارتفاعاً كبيراً في المحتوى الموالي لروسيا بهدف إضعاف الدعم الشعبي لأوكرانيا.
تغير موازين القوى
تشير التقارير الميدانية إلى استعادة القوات الروسية للمبادرة في جبهات الشرق والجنوب، في ظل صعوبات تواجهها القوات الأوكرانية في تأمين الذخائر وقطع الغيار، حيث يعتمد الجيش الروسي تكتيك “القضم البطيء” مستفيداً من الإنهاك الأوكراني.
تراجعت الإمدادات الأمريكية لأوكرانيا بعد إعادة نظر إدارة الرئيس ترامب في برامج المساعدات، مقابل تعزيز العقوبات الاقتصادية على موسكو، حيث فرضت واشنطن عقوبات مشددة على شركتي “روسنفت” و”لوك أويل” بتهمة تمويل الكرملين لعملياته العسكرية من عائدات النفط.
تخوف من اتساع الصراع
يتزايد القلق بشأن احتمال امتداد الحرب خارج أوكرانيا، وحذرت صحيفة “واشنطن بوست” من أن “الكرملين بدأ ينقل أدوات الحرب الهجينة إلى جواره الآسيوي”، مع وجود مؤشرات على نشاط روسي مريب في كازاخستان وأرمينيا.
تقارير استخباراتية كشفت عن محاولات روسية لإثارة اضطرابات في المناطق ذات الغالبية الروسية في كازاخستان، فيما كشفت السلطات الأرمينية عن مؤامرة انقلابية يُشتبه في ضلوع رجال أعمال موالين لموسكو فيها.
دعم هشّ وتردد متزايد
في محاولة لتوحيد الموقف الغربي بشأن أوكرانيا، اجتمع وزراء خارجية دول مجموعة السبع، لكن الانقسامات ظهرت واضحة، فبينما شددت ألمانيا وفرنسا على ضرورة إيجاد “مخرج دبلوماسي”، دعت واشنطن ولندن إلى مواصلة الضغط الاقتصادي والعسكري على موسكو.
يأتي هذا الاجتماع في ظل شتاء قاسٍ جديد يواجهه الأوكرانيون، مع تدمير متكرر لمحطات الكهرباء والبنية التحتية للطاقة، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 40% من المنظومة الكهربائية الأوكرانية خارج الخدمة.
صراع مفتوح متعدد الطبقات
يواجه الغرب مشهداً ضبابياً، فروسيا تتقدم عسكرياً وتوسع نفوذها عبر “حروب رمادية”، بينما يعاني التحالف الغربي من إنهاك مالي وسياسي متزايد، وفيما تسعى كييف للصمود، تدرك أن ميزان القوى بدأ يميل تدريجياً لمصلحة موسكو.
ما يجري اليوم ليس حرباً باردة، بل صراع مفتوح متعدد الطبقات تخوضه روسيا لإعادة رسم موازين القوة في أوروبا والعالم، وفيما تصر موسكو على أن عمليتها في أوكرانيا تسير وفق “خطة محسوبة”، يعيش الأوروبيون مرحلة بينية قلقة لا حرب شاملة فيها ولا سلام حقيقي.


