أمريكا تكذب، ونحن نعلم أنها تكذب، وهي تعلم أننا نعلم أنها تكذب، لكننا نكذب وندعي أننا لا نعلم أنها تكذب، وكأننا نقول لها بابتسامة عريضة ساذجة: زيدينا ضربًا وصفعًا على وجوهنا، فنحن لا نشعر بالألم لأننا “أقوياء” أقوياء جدًا جدًا جدًا..، لكن الحقيقة أننا “جبناء” أضعف من أن نرد صفعاتها، فندعي القوة في قدرتنا العظيمة على تحمل الألم، ولأنها تعلم أننا نكذب في ادعائنا أننا لا نعلم أنها تكذب أو أننا لا نتألم، تمضي في مسلسل صفعنا وخداعنا، ونحن غير قادرين “حتى” على الاعتراف بالألم والوجع.
أمريكا تكذب.. فمن “نحن”؟
لعلك تتسائل الآن: من المقصود بضمير “نحن” هنا؟.. هل هو: كاتب المقال وعشيرته؟ أم الضمير عائد على قراء هذا المقال؟ أم يعود على دولة عربية محددة؟ أم كل الدول العربية؟ أم كافة الدول الإسلامية؟ أم جميع الدول في العالم؟ هل المقصود بـ”نحن” هنا الشعوب أم الحكومات؟.. والإجابة ببساطة أن ضمير نحن هنا يعود على كل ماسبق.
نعم جميعنا؛ العالم العربي والإسلامي وكافة الدول، الشعوب والحكومات، كلنا يعيش الأكذوبة الأمريكية، ولكن بدرجات: منا من يصدقها دائما بل ويؤمن بها، ومنا من يصدقها حين ويكذبها حين آخر، منا من باع نفسه فاشترته، ومنا من اشترته فباع نفسه، ومنا من هو مجبر على تصديقها، الكل منغمس في هذه الأكذوبة ويتلقى الصفعات… ولكن بدرجات!.
نعم أنت منهم
نعم الكل وأنت منهم؛ أقل مثال على ذلك أنك أعطيتها الحق في معرفة كل شيء عن حياتك وأسرارك عندما وافقت مجبرا على استخدام تطبيقات هاتفك المحمول وأجهزتك المتطورة -المحمولة منها والثابته- بما تحمله من تكنولوجيا تستخدم بعضها مجانا، ولعلك صدقت حقا أنك تستخدمها مجانا دون أن تدفع الثمن!!.
حتى أولئك الذي يقاومون أو يعترضون فإنها تخدعهم بسهولة، تخدعهم بأكذوبة جديدة وبسياستها “الثعبانية الثعلبية” تلك السياسة الملتوية شديدة الدهاء والازدواجية، لدرجة أن أعداءها يأملون وينتظرون كل مرة منها أن تخدعهم بكذبة جديدة ليطمئنوا؛ على سبيل المثال ها هو “دونالد ترامب” الذي عُرف خلال فترة رئاسته السابقة لأمريكا بسياسته الغاشمة المتعجرفة وفرض سطوته بالقوة، وشاهدنا ما فعله بنقل السفارة الأمريكية لدى دولة الاحتلال إلى القدس واعترفه بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السورية المحتلة، ومع ذلك ينتظر البعض منه الآن أن يعيد السلام وينهي العدوان على فلسطين ولبنان!
سياسة الازدواجية تحت مسمى الحرية
عُرفت أمريكا بسياستها الازدواجية تحت مسمى الحرية.. هل سمعت عن: أمريكا الحامية العظمى للديمقراطية والعدالة؟ نعم، فتلك الدولة -التي نشأت وقامت على إبادة السكان الأصليين لقارة أمريكا الشمالية “الهنود الحمر”- تؤكد دائما وتنادي بقيم “الحرية” و”حقوق الإنسان” حتى كدنا نصدق أن رسالتها في الحياة هي نشر الخير والسلام! فهي تُذكّرنا دائما بذلك الشخص الكاذب الذي يُقسم دائما أمام الجميع أنه يقول الحقيقة.
تتغير وجوه رؤساء أمريكا، من جورج بوش الدموي إلى أوباما الهادئ وترامب المجنون وبايدن الوديع ثم ترامب مرة ثانية، لكن تبقى السياسة واحدة بأسلوب مختلف، إنه كذب متقن يغلفه إعلام بارع، يجعل أمريكا تقدم نفسها كـ”البطل المنقذ” لكل مشكلة، سواء دعتها الحاجة إلى احتلال دولة أو “تحرير” أخرى.
تغير الرؤساء في أمريكا -ذلك المشهد الانتخابي الذي يظل يشغل العالم لشهور- لا يغير من توجهات السياسة الخارجية وسعيها في الحصول على أهدافها، لكنه فقط قد يغير من طريقة الحصول على الهدف، فالدولة نفسها تعتمد على مبدأ ثابت، وهو الحفاظ على النفوذ مهما تطلب الأمر.. فـ”ترامب” بشعاراته الصاخبة و”بايدن” بخطابه الدبلوماسي الناعم هما وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما يتبع خططًا متشابكة تستند إلى مصلحة أمريكا الاقتصادية والسياسية، دون اعتبار حقيقي للقيم التي يروّج لها العالم.
هذا الأسلوب الأمريكي قديم قِدَم الحرب الباردة، حيث تم استخدام نفس الأساليب لمواجهة المعسكر السوفييتي، وتستمر هذه الآلة الإعلامية والسياسية في العمل بنفس الطريقة لتحقيق التفوق الأمريكي.. السياسات الأمريكية ليست إلا عرضًا مسرحيًا متقنًا، ومع ذلك يستمر البعض في التصفيق للعرض المسرحي، ويدفعون تذاكره الباهظة كل مرة.
مثال ودليل واضح
غزو العراق تعد أحد أبرز الشواهد على ازدواجية المعايير الأمريكية، ففي عام 2003 قامت الولايات المتحدة بغزو العراق، تحت ادعاء امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل تشكل تهديدًا على العالم، وعلى الرغم من عدم العثور على أي من تلك الأسلحة، استمرت في تدمير العراق وسرقة ونهب ثروات شعبه، وبررت ذلك بشكل فج، بأنها قامت بحماية العالم من “تهديد مفترض” وصوّرت نفسها على أنها “المنقذ العالمي”.
خرجت أمريكا من العراق تاركةً وراءها بلدًا محطماً وأزمات متلاحقة أثرت على المنطقة بأكملها، وما زالت تداعياتها إلى الآن.. وبدلًا من أن تحاسب نفسها على أخطائها، تابعت نهجها في إثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار في المنطقة.
ولن تجد مثالا أكثر وضوحا ودلالة على ازدواجية المعايير أفضل من التعامل الأمريكي مع قضيتي فلسطين وأوكرانيا.. ففي العدوان الإسرائيلي على غزة تتجاهل أمريكا ما يواجهه الشعب الفلسطيني من انتهاكات ومعاناة وإبادة جماعية ومجاعة، ولم تكتفي بالتجاهل بل إنها تدعم الاحتلال الإسرائيلي المعتدي وتبرر أفعاله الإجرامية وتمده بالسلاح بل وتشاركه في حرب الإبادة على الشعب الأعزل.. وفي المقابل عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، انتفضت أمريكا لحماية “حقوق الإنسان” و”السيادة”.
فعندما يتعلق الأمر بحليف استراتيجي مثل إسرائيل، تبدو “حقوق الإنسان” مجرد كلمات فارغة، ولكن عندما تتعارض مصالحها مع طرف آخر تتحول إلى داعم قوي لهذه القيم الإنسانية، إذ تسير بمبادئ مزدوجة تمليها أولويات مصالحها.
لماذا نصدقها؟
لماذا يصدق العالم الأكاذيب الأمريكية؟ لماذا تستمر الدول والشعوب في تصديق أمريكا رغم معرفتهم بكذبها؟.. والإجابة هنا متشعبه إذ تكمن أسباب الهيمنة الأمريكية في عدة عوامل مركبة، منها: القوة الاقتصادية والعسكرية والنفوذ الهائلة التي تملكها أمريكا ما يجعل الدول حذرة في مواجهتها ومجبورة على تصديق روايتها، إلى جانب سيطرتها التكنولوجية التي يفرض حاضرنا الآن استخدامها، وسيطرتها الإعلامية التي تعمل من خلالها على تروج رواياتها وتشكيل الرأي العام وتشتيته.
بالإضافة إلى تحالفاتها ودعمها العسكري والاقتصادي للعديد من الدول ما يجعل تلك الدول تتجنب انتقاد السياسة الأمريكية حتى وإن كانت ترى ازدواجيتها، كما أنها تستخدم قوتها الناعمة بمهارة وتقدم نفسها كمركز للعلوم والثقافة والتعليم، ما يمنحها جاذبية تجعل الكثير من الدول تفضّل التماشي معها بدلاً من مواجهتها.
إلى متى ستستمر الأكذوبة الأمريكية؟
رغم كل ما سبق، يبدو أن هناك يقظة متزايدة حول العالم؛ العديد من الدول بدأت تدرك أهمية الاعتماد على نفسها وتطوير ذاتها والانضمام لتحالفات تمكنها وتؤهلها للاستقلال عن الهيمنة والسياسة الأمريكة التي تعتمد على الكذب المقنع وازدواجية المعايير، لكن يبقى التساؤل: هل سيتمكن المجتمع الدولي من كسر الهيمنة الأمريكية؟ وهل ستتركهم أمريكا؟