حدد الجنرال الإنجليزي هايستنيغز إيسماي، والذي يعد أول أمين عام لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، أهداف الحلف الثلاثة المتمثلة في إبقاء الولايات المتحدة في أوروبا، وإبعاد روسيا عنها، وضمان السيطرة على ألمانيا.
استقلالية جديدة
في أعقاب فوز حزبه في الانتخابات الألمانية، أكد المستشار المقبل فردريك ميرتس رغبته في تحقيق استقلالية عن الولايات المتحدة. وأعلن أنه يعتزم مناقشة إمكانية استبدال المظلة النووية الأمريكية، التي تحمي الدول الأوروبية، بمظلة أوروبية جديدة يتمثل دورها في الأسلحة النووية لكل من فرنسا وبريطانيا.
كما ذكر توماس بين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، بأن من المستحيل الاستمرار في فرض الحكم على قارة من جانب إمبراطورية تبعد عبر المحيط. وقد كان يقصد بذلك النفوذ البريطاني على القارة الأمريكية.
التجهّز للعصر الجديد
في هذا السياق، يبدو أن الرئيس السابق دونالد ترامب يتبنى سياسة مناقضة، حيث يتجه نحو التحرر من أوروبا، رغم أن هذه الأخيرة كانت تحت السيطرة غير المباشرة للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهناك من يرى أن نجاح قارة أوروبا وازدهارها كان نتيجة لحماية الولايات المتحدة لها ضد الاتحاد السوفياتي. فهل انتهى مبدأ “الأمن من خلال القطيع” في أوروبا؟
في عام 1962، تساءل الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول عن جدوى السوق الأوروبية المشتركة إذا لم تكن القارة مستقلة عن كل من روسيا وأمريكا.
حلف الناتو في أزمة
تظهر لغة الجسد للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقائه مع ترامب في البيت الأبيض أنه كان مفعماً بالسعادة، ليس بسبب نجاحه في تغيير موقف ترامب من الأزمة الأوكرانية، بل لأن ماكرون كان قد حذر، منذ عام 2019، من أن حلف الناتو أصبح في حالة موت سريري، مما يعني أنه لا يمكن لأوروبا الاعتماد على الحماية الأمريكية إلى الأبد.
وعلى الرغم من العودة القوية للولايات المتحدة إلى القارة الأوروبية خلال إدارة الرئيس السابق جو بايدن بسبب الحرب الأوكرانية، فإن من المحتمل أن يعيد ترامب الولايات المتحدة إلى موقفها الانسحابي من القارة، مما قد يؤكد صحة رؤية ماكرون المستقبلية.
العقيدة الاستراتيجية الأمريكية
تاريخياً، تميز الرؤساء الأمريكيون بإصدار ما يُعرف بالعقيدة الاستراتيجية، بدءًا من الرئيس جيمس مونرو في عام 1823 وحتى اليوم، مع التأكيد على أنها أداة دبلوماسية غير مباشرة. فهي تعبر عن رؤية الرئيس الأمريكي للعالم وهي بمثابة رسالة لكل من الحلفاء والأعداء، فضلاً عن كونها استراتيجية ردع غير ملزمة بشكل حرفي. تعكس هذه العقيدة توجهات الإدارة السياسية والاقتصادية والعسكرية وتعتمد عليها الميزانيات والقوانين.
تاريخياً، كانت العقيدة الاستراتيجية أمريكية إقليمية، مثل تلك التي صدرت خلال إدارة الرئيس جيمي كارتر لضمان أمن منطقة الخليج بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان. ورغم أنها لا تتطلب موافقة الكونغرس إلا في حالة صرف الأموال، فقد ساعدت العقيدة في رسم ملامح “استراتيجية الاحتواء” ضد الاتحاد السوفياتي.
مؤشرات على “عقيدة ترامب”
يتساءل المحللون عما إذا كانت لدى ترامب عقيدة استراتيجية تختلف عن سابقيه. هل هو رئيس تغييري، أم أن النظام العالمي الحالي أصبح ميؤوساً منه ويشجع ترامب على استغلال الوضع لتحقيق مصلحة بلاده؟
في مؤتمر يالطا عام 1945، قدم الرئيس روزفلت تنازلات للزعيم السوفياتي ستالين رغم معارضة تشرشل. اليوم، يبدو أن ترامب يقدم مكافآت جيوسياسية لفلاديمير بوتين، رغم أن العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا شهدت توتراً. فقد زودت الولايات المتحدة الرئيس الأوكراني زيلينسكي بكميات كبيرة من الأسلحة النوعية لدعمه ضد الهجوم الروسي.
عناصر العقيدة الجديدة
هناك خمسة مؤشرات أساسية تشكل العقيدة الاستراتيجية الحالية لترامب. تركز العقيدة على أربع دوائر جغرافية تشمل الدائرة الداخلية المرتبطة بإيلون ماسك، والدائرة المحيطة بكندا والمكسيك، والدائرة الإقليمية المرتبطة بقناة بنما وجزيرة غرينلاند، وأخيراً الدائرة الكونية التي تشمل غزة وأوكرانيا مروراً بالصين.
يعتمد ترامب على استخدام الضغط أكثر من المحادثات الدبلوماسية، ولا يملك تمييزاً بين الأصدقاء والخصوم في تعاملاته. السياسة الخارجية تعتمد على القوة الصلبة بدلاً من القوة الناعمة التي دعا إليها المفكر الأمريكي جوزيف ناي. توضح السياسة الملازمة لترامب أن جميع التعهدات تأتي مع توقعات متبادلة، مما يشير إلى تحول نوعي في الأساليب الدبلوماسية.