في يومٍ من الأيام، اجتمع قادة إثيوبيا العظام، وسرحوا بخيالهم في خارطة بلادهم، راحوا ينظرون إليها بنظرة القائد الهمام الذي يعشق الانتصار، وفجأة خطرت لهم فكرة، قالوا: “هنا سنبني سد النهضة“، قالوها بكل فخر أمام شعبهم، وراحوا يحلمون أن هذا السد سيكون عصا سحرية سيغير مسار التاريخ ويحول إثيوبيا إلى قوة عظمى تسيطر على مصر والسودان وتمتلك النيل…
هكذا بدأ ما يُعرف اليوم بواحد من أعظم قصص الخداع في تاريخ الدول الحديثة: “سد النهضة”.. وسامحونا إذا ادعينا أن قادة إثيوبيا العظام هم من فكرو وخططوا دون أن نشير إلى من بث الفكرة في نفوسهم وأشعلها في قلوبهم، حتى نحافظ على ماء وجوههم.
لكن كما يقولون: “الحيلة لا تنطلي على الجميع”، ومصر البلد الذي طالما كان صبورًا وذكيًا في تعامله مع التحديات، لم تقع في الفخ الإثيوبي، بل قلبت الطاولة على رأس هؤلاء الزعماء العظماء، قلبتها بذكاء استراتيجي ودبلوماسية هادئة… مع العلم أن القصة لم تنتهي بعد!!.
بداية قصة سد النهضة!
في أعماق الهضاب الإثيوبية الشامخة، شُيِّد صرحٌ يُدعى “سد النهضة“، بدأ كمشروع وطني كبير قبل أن يتولى آبي أحمد السلطة، هذا السد الذي وُضع حجر أساسه في أبريل 2011 خلال فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي، كان مشروعًا قيد التخطيط منذ سنوات طوال، ولكن اللحظة السانحة جاءت في ظل حالة الفوضى التي مرت بها مصر بعد ثورة 25 يناير.
بدأت إثيوبيا في تنفيذ خطتها ببناء السد مستغلةً انشغال مصر بإعادة ترتيب أوراقها السياسية والاقتصادية في أعقاب الثورة، التوقيت كان مناسبا ومدروسًا بعناية، حيث رأت إثيوبيا أن مثل هذا التوقيت لن يتكرر لبدء تنفيذ مشروعها الذي تعارضه القاهرة بشده، ولم تكن تجرؤ على تنفيذه من قبل، خاصة والظروف الإقليمية والدولية تصب في مصلحتها.
الحلم الذي تحول إلى كابوس
فُهم من هذا المشروع أن إثيوبيا ستتحول بين ليلة وضحاها إلى سويسرا إفريقيا، مستفيدة من تدفق النيل لتوليد الطاقة وتصدير الكهرباء لجميع جيرانها، بما فيهم مصر، لكن كما في الأفلام الكوميدية كلما طال الوقت زادت السخرية وعلت الضحكات، فالمشروع الضخم الكبير كلما اشتد عوده وأوشك على الانتهاء تكشفت حقائقه المثيرة للسخرية.
الماء، عصب الحياة، كان من المفترض أن يكون هو السلاح الذي ستستخدمه إثيوبيا لتركيع مصر، لكن بدلاً من ذلك أصبح السد هو الذي يجثو على ركبتيه مترنحًا بين مشكلات تقنية ومخاوف بيئية وقضايا مالية؛ إثيوبيا التي كانت تظن أنها على وشك الإمساك بالرياح وجدت نفسها تُطفئ أنوارها لأن الكهرباء الموعودة لم تصل بعد.
اللعب بذكاء
في الوقت الذي كان يحلم فيه آبي أحمد بالقوة والسيطرة، كانت مصر تتعامل مع الموقف بذكاء نادر؛ بدلاً من الدخول في مواجهات مباشرة أو رفع رايات الحرب، فضلت القاهرة الدبلوماسية الهادئة والمكر السياسي، مصر لم ترد على “العنجهية والعظمة” الإثيوبية إلا بابتسامة ساخرة، وكأنها تقول: “سنرى من سيضحك في النهاية”.
في الوقت الذي كانت إثيوبيا تروج لمشروعها كأنه معجزة العصر وأن عجائب الدنيا سيصبحوا ثمانية، كانت مصر تُعدّ استراتيجياتها بصمت، دعمت مصر دول القرن الإفريقي المجاورة، وعمقت علاقاتها مع السودان، وحشدت التأييد الدولي لقضيتها في مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، ليصبح الموقف الإثيوبي أضعف فأضعف مع مرور الوقت.
مصر على الحدود الإثيوبية!
والآن، بعد سنوات من النزاعات الدبلوماسية والتهديدات الصاخبة من الجانب الإثيوبي، تتفاجأ أديس أبابا بمشهد لم تكن تتوقعه؛ الجيش المصري واقفا على حدودها! الحدود الإثيوبية مع الصومال أصبحت ملعبًا مفتوحًا لمصر! كيف حدث هذا؟!
الصدمة دفعت إثيوبيا لاستعجال اختبار ورقة ضغطها التي طالما حلمت بها، أسرعت إثيوبيا وأغلقت بوابات السد لمنع وصول مياه النيل إلى القاهرة!! حاولت تركيع مصر، لكن يبدوا أن شيئا عظيما قد حدث، فورا تراجعت وفتحت بوابات السد!.
الجيش المصري يصل الحدود الإثيوبية بالاتفاق مع الصومال
هل تستعد مصر للتدخل عسكرياً لوقف إثيوبيا؟
ببساطة، مصر أدركت اللعبة وعرفت كيف تربح بها؛ من الناحية النظرية كان من المفترض أن يولد سد النهضة كميات هائلة من الكهرباء لإثيوبيا وجيرانها، وأن يعزز الاقتصاد الإثيوبي بشكل يفوق الخيال، لكن الواقع كان بعيدًا عن التوقعات، لم يحقق السد أي من أهدافه الاقتصادية المعلنة، فالكهرباء أين؟! في بلد يعاني شعبه من الخداع الحكومي.
أما عن الأهداف الخفية التي كانت تتعلق بالسيطرة الإقليمية، فقد تبخرت هي الأخرى، لم تتمكن ولن تتمكن إثيوبيا من فرض سيطرتها على نهر النيل كما كانت تأمل، إثيوبيا وجدت نفسها تواجه ضغوطًا وأزمات داخلية تفاقمت وخارجية تازمت، والسد يبدو أنه لن يتحمل!.
مصر الآن تقف على الحدود الإثيوبية من خلال تحالفاتها الذكية ودبلوماسيتها النشطة، استطاعت أن تنسج شبكة من العلاقات في القرن الإفريقي، لتصل إلى نقاط كانت تظنها إثيوبيا حكرًا لها.. الآن إثيوبيا تجد نفسها محاطة بجيران تحالفوا مع مصر وليس لديهم أي تعاطف مع مشروع السد الفاشل.
نقطة آخر السطر
ماذا حدث أو ماذا سيحدث لـ «سد النهضة» الذي كان من المفترض أن يكون رمزًا للفخر الإثيوبي؟! الإجابة أنه لم يحقق أيًا من الأهداف التي رسمها قادة إثيوبيا لشعبهم، ولا ما رُسم لهم في أجنداتهم، لا سيطرة على النيل، ولا انتصار دبلوماسي، ولا حتى إنتاج كهرباء كافية لتنوير مصابيح القرى الإثيوبية.
الأمر الذي يجعل المشهد أكثر سخرية هو أن مصر التي كان من المفترض أن تكون الضحية، لم تُصب بأي أذى، بل إنها تقف في هذه الملحمة أكثر قوة ونفوذًا واستعدادا، وبينما يجلس آبي أحمد في قصره يتأمل السد البائس، يتساءل: كيف تمكنت مصر من الوصول إلى الحدود الإثيوبية دون أن تطلق رصاصة واحدة؟
وأخيرا.. بناء الأحلام الزائفة لا يجلب إلا الكوابيس، ويبدو أن قصة سد النهضة ستكون أكثر سخرية مع كتابة فصولها الأخيرة… لكن تبقى نقطة الختام.