بيروت تحت وطأة الذكريات: صيف 1982 يطل برأسه مجددًا، حاملاً معه تداعيات الاجتياح الإسرائيلي، واغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل، وولادة مقاومة لبنانية واجهت تحديات جسام.
بداية الاجتياح الإسرائيلي
في ذلك الصيف المشؤوم، شهد لبنان أحداثًا مفصلية غيرت مساره. الجيش الإسرائيلي يقتحم بيروت، منظمة التحرير الفلسطينية تبحر نحو المنفى، وولادة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” (جمول).
محسن إبراهيم، الأمين العام لـ”منظمة العمل الشيوعي”، كشف قبل سنوات أن نظام حافظ الأسد عاقبهم لثلاثة أسباب رئيسية: اكتشافهم نوايا النظام بالبحث عن عملاء بدلًا من حلفاء، وفضح مخطط الاستيلاء على القرار الفلسطيني، وإطلاق “جمول” ورفض إلحاقها بالأجهزة السورية.
قصة “جمول” الكاملة
إلياس عطاالله، القيادي الشيوعي ومنسق عمليات “جمول”، يمتلك القصة الكاملة لـ”الجريمة” الثالثة. في ظل الجدل الدائر حول سلاح “حماس” و”حزب الله”، تعود “الشرق الأوسط” إلى أحداث صيف 1982 للكشف عن تفاصيل جديدة حول “جمول” والاغتيالات الكبرى، بما في ذلك اغتيال الرئيسين بشير الجميل ورينيه معوض، وصولًا إلى اغتيال رفيق الحريري، إضافة إلى دور الاستخبارات السوفياتية.
التحضير للعملية العسكرية
في مايو 1982، تصاعدت المخاوف في بيروت من عملية عسكرية إسرائيلية محتملة لإبعاد صواريخ الفصائل الفلسطينية عن المستوطنات الإسرائيلية. التقديرات رجحت توغلًا إسرائيليًا لمسافة أربعين كيلومترًا في الأراضي اللبنانية، وصولًا إلى نهر الأولي.
عطاالله توقع أن هذا التوغل لن يحقق أهداف إسرائيل، معتقدًا أن المقاومة الفلسطينية وحلفاءها قادرون على التراجع إلى بيروت والاحتفاظ بقدراتهم. لم يستبعد وصول الاجتياح إلى بيروت نفسها لتغيير المعادلة.
ذريعة الاجتياح الإسرائيلي
لم تتأخر إسرائيل في إيجاد ذريعة، حيث قام صبري البنا (أبو نضال) بمحاولة اغتيال سفير إسرائيل في بريطانيا شلومو أرغوف. في الرابع من يونيو، أغارت الطائرات الإسرائيلية على المدينة الرياضية في بيروت. وفي السادس من الشهر نفسه، بدأ الجيش الإسرائيلي اجتياحه البري للبنان بأوامر من وزير الدفاع آرييل شارون.
تفاصيل ولادة “جمول”
عطاالله يكشف عن ظروف ولادة “جمول” وأبرز عملياتها، وموجة الاغتيالات التي استهدفت الحزب الشيوعي لرفضه قرار الأسد بإخضاع “جمول” للتنسيق المسبق مع الاستخبارات السورية والاندماج مع “حزب الله”. كما يروي ذكريات عرفات الأخيرة في بيروت قبل مغادرته إلى جانب جورج حاوي.
خريطة الحصار وقرارات عرفات
بعد بدء الاجتياح البري، اجتمع عرفات واللواء حسن النقيب وحاوي وعطاالله أمام خريطة في إحدى غرف العمليات. عرفات كان قلقًا بشأن مدى توغل القوات الإسرائيلية، وكان يكرر السؤال عن مواقعها.
قوات “فتح” انسحبت باتجاه جزين والبقاع، والمفاجأة كانت أن رئيس أركان هذه القوات كان عميلاً لإسرائيل، حسب قول عطاالله. وهكذا، أصبحت المعركة محصورة في بيروت.
عرفات قائد معركة بيروت
عطاالله يصف عرفات بأنه قائد معركة الدفاع عن بيروت، مشيرًا إلى شجاعته غير العادية. كان هاجسه الوحيد هو انتصار القضية الفلسطينية. كما أشاد بدور خليل الوزير (أبو جهاد) في الشؤون العسكرية.
عطاالله يعتقد أن قتل عرفات كان هدفًا رئيسيًا لإسرائيل في الحرب، نظرًا لقيمته الرمزية. عرفات لم يتردد في التجول في المدينة المحاصرة لتفقد مواقع المقاتلين ورفع معنوياتهم.
معركة سباق الخيل
يتذكر عطاالله معركة سباق الخيل التي خاضها الحزب الشيوعي وحده. تلقوا معلومات عن استعداد الجيش الإسرائيلي للتقدم عبر منطقة سباق الخيل لعزل الفاكهاني قبل اجتياح بيروت.
تم وضع قاذفات “بي 7” على جانبي الطريق، وقصفوا الإسرائيليين، مما أدى إلى خسائر في الدبابات ومقتل جنرال يقود الهجوم.
ملجأ عرفات الأخير
في بيروت المحاصرة، اتخذ عطاالله من الطبقة الخامسة تحت الأرض في بناية مارينيان مقرًا له ولجورج حاوي. ذات يوم، وصل عرفات إلى المبنى وأمضى الأيام العشرة الأخيرة قبل مغادرته بيروت مع حاوي وعطاالله.
اتصالات عرفات الأخيرة
وسط الحصار، أدرك عرفات أن أحدًا لن يستطيع إنقاذه. ذهب مع هاني الحسن إلى السفارة السوفياتية، لكن السفير ألكساندر سولداتوف كان واضحًا: موسكو ليست في وارد التدخل.
نضجت ظروف الخروج من بيروت، وتم التوصل إلى اتفاق مع فيليب حبيب، مبعوث الرئيس الأميركي رونالد ريغان. عرفات أبلغ قادة الفصائل الفلسطينية، وحاول جورج حبش ونايف حواتمة “المزايدة” عليه، لكنه رفض.
كراهية عرفات للأسد
الحصار لم يطفئ نار العداوة بين عرفات والأسد. عرفات كان يرفض الانسحاب برًا إلى سوريا، معتبرًا الأسد عدوًا مثل إسرائيل وأكثر.
الكراهية المتبادلة بين الأسد وعرفات كانت السبب في معركة طرابلس الدامية، حسب قول عطاالله. عرفات قال لمحسن إبراهيم إن “خروجي من بيروت حيًا ضاعف حقد شارون والأسد عليّ”.
تسليح الوحدات السورية
عطاالله يذكر أن عرفات اهتم بالوحدات العسكرية السورية المحاصرة في بيروت وقام بتسليحها وتوفير المؤن لها.
زيارة السفارة السوفياتية
بعد تكرار القصف الإسرائيلي لمحيط السفارة السوفياتية، زار عطاالله السفارة، لكن السفير سولداتوف أكد له أن العلم السوفياتي قادر على حمايته.
ترشيح بشير الجميل للرئاسة
في ذلك الصيف، أعلن بشير الجميل ترشحه لرئاسة الجمهورية. قبل الغزو الإسرائيلي، كان من الصعب تصور انتخابه بسبب العداء بينه وبين معظم الأطراف اليسارية والإسلامية.
نصيحة “الأرنب” السوفياتي
مسؤول “كي جي بي” في السفارة السوفياتية، الملقب بـ”الأرنب”، زار عطاالله وفاجأه بسؤال: لماذا لا تؤيدون بشير الجميل للرئاسة؟
“الأرنب” كان يتكلم كأن بيروت ستصبح بلا نفوذ فلسطيني أو سوري، مشجعًا على انتخاب بشير، معتبرًا أنه “أفضل خيار في الظروف التي أنتم فيها”.
رفض عطاالله
عطاالله أبلغ حاوي أنه لن يستقبل “الأرنب” مجددًا. في النصف الثاني من أغسطس، تصاعدت حرارة الانتخابات الرئاسية.
عرفات يرفض تخريب الانتخابات
دار همس في أوساط الأحزاب المعارضة للجميل أن الحل الوحيد لوقف انتخابه هو قصف المقر الذي ستجرى فيه الانتخابات. عرفات رفض بشكل قاطع تخريب جلسة الانتخاب، قائلاً: “لا تلعبوا في هذا الموضع فتبلوننا”.
اغتيال بشير الجميل
انتُخب بشير الجميل. في 14 سبتمبر 1982، هز انفجار بيت “الكتائب” في الأشرفية، وقُتل بشير الجميل.
“لحاف ألماني شرقي قاتل”
عطاالله علم من مصدر شيوعي أن بشير قد قُتل. منفذ الاغتيال، حبيب الشرتوني، كان يحركه شخص اسمه نبيل العلم، له علاقة بالمخابرات في ألمانيا الشرقية.
المتفجرة التي قتلت بشير جاءت من ألمانيا الشرقية على شكل لحاف نوم عادي، ووضعت فيه مادة شديدة الانفجار.
بداية المقاومة
اغتيل بشير وحصلت مجازر صبرا وشاتيلا واجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت الغربية. هنا بدأ الفصل الأهم في تجربة عطاالله، حيث كُلّف بالإشراف على عمليات “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”.