في شمال شرق دلتا النيل بمحافظة الشرقية وعلى بعد حوالي 150 كم من القاهرة، تقع مدينة “تانيس“، والتي تعرف حاليا باسم مدينة “صان الحجر“، تلك المدينة التاريخية أو العاصمة المجهولة التي تأسست على ضفاف النيل قبل آلاف السنين، وعرفت أيضا باسم “جعنت” و”صوعن”.
متى تأسست مدينة صان الحجر “تانيس”؟
تحديد مؤسس المدينة أو فترة تأسيسها ليس بالأمر السهل، نظرا لصعوبة التعقيدات التاريخية القديمة وتطور المدن عبر العصور.. لكن يعتقد أن الملك “سمندس” له دور كبير في تأسيسها قبل نحو 3000 عام -تقريبا في عام 1070 قبل الميلاد-، وذلك مع بداية الأسرة الحادية والعشرين، حيث اختارها الملك لتكون عاصمته السياسية والدينية بدلاً من مدينة طيبة، وبدأت هذه المدينة التاريخية في الازدهار خلال عهد هذه الأسرة 21 والأسر التي بعدها، إلى أن أصبحت مركزًا هامًا لعبادة الإله آمون والإله ست.
تأسست المدينة خلال فترة حكم الدولة الفرعونية الحديثة، وشهدت أوج ازدهارها خلال فترة الأسرة الحادية والعشرين عندما أصبحت عاصمة لمصر الشمالية، وكانت المدينة موطنا للعديد من ملوك الفراعنة الذين حكموا هذه الفترة، بما في ذلك الملك بسوسنس الأول الذي عُرف بمقبرته الغنية بالكنوز.
عاصمة مصر المجهولة
وتحولت المدينة إلى مركزا سياسيا وعسكريا هاما خلال فترة حكم الأسرة الثانية والعشرين (في الفترة ما بين عامي 945 إلى 712 قبل الميلاد)، وذلك عندما قام الملك شيشنق بنقل العاصمة إلى تانيس، وعلى هذا النحو استمرت المدينة في الازدهار خلال فترة حكم الأسرة الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين.
كانت هذه المدينة مرآة تعكس عظمة الفراعنة وقوتهم، حيث اجتمع فيها: الفن والسياسة مع روحانيات العبادة القديمة؛ فمن بين جدران معابدها وقصورها كان يصدح صوت المصريين القدماء بعظمة حكمتهم وقدرتهم، إذ لم تكن تانيس أو صان الحجر -حاليا- مجرد مدينة وإنما كانت عاصمة للروح والحضارة.
طمس معالم المدينة وعودة اكتشافها
مع مرور العصور طُمست معالم المدينة التاريخية تحت رمال الزمن، لكنها أبداً لم تُنسَ؛ حيث عاد علماء الآثار لاكتشافها، فوجدوا فيها كنوز وأسرار التاريخ، وكان اكتشافها بمثابة نافذة نطل من خلالها على عظمة الماضي، على عصور الازدهار وقدرة المصري القديم على الإبداع اللامتناهي.
وتجلت الأهمية الأثرية لتانيس بشكل كبير بعد اكتشافات العالم الفرنسي “بيير مونتيه” في ثلاثينيات القرن الماضي؛ حيث عُرفت تانيس بآثارها ومعابدها التي بُنيت على شرف الآلهة المصرية القديمة، وبالتماثيل والنقوش التي تحمل أسماء الملوك والفراعنة الذين حكموا منها، وأيضا مسلاتها الشاهقة والتي نقل بعضها مؤخرا إلى القاهرة حيث وضعت واحدة منها في ميدان التحرير والأخرى في المتحف المصري الكبير.
“تانيس” أو صان الحجر كما نسميها اليوم، ليست مجرد مكان على الخريطة أو موقع أثري، إنها حكاية حضارة، قصة ترويها نقوش الأحجار باللغة الهيروغليفية، إنها جزء من هوية مصر الخالدة، لتذكرنا دومًا بأن المصريين هم ورثة لأعظم الحضارات التي عرفها التاريخ.
صان الحجر اليوم
اليوم، تُعتبر مدينة صان الحجر “تانيس” موقعًا أثريًا هامًا يجذب إليه العديد من علماء الآثار والسياح، الذين يأتون لاستكشاف تاريخ هذه المدينة التي يحوم حولها الغموض حتى الآن بسبب المجهول عنها من أسرار، ولأنها ما زالت لم تأخذ حقها التاريخي بعد.
ورغم ما تشهده المنطقة من تطوير، إلى أن المدينة لم تحظى بعد بالقدر الكافي من الاهتمام الذي يضعها في نصابها الصحيح كواحدة من أهم العواصم المصرية خلال العصر الفرعوني، ولم تخرج حاليا عن كونها منطقة أثرية في أحد مراكز محافظة الشرقية.
أصل تسمية صان الحجر
في النصوص المصرية القديمة، أُطلق على مدينة صان الحجر اسم “جعنت” والذي يشير معناه إلى المدينة التي بُنيت في الأرض الخالية، وفي التوراة ذُكرت المدينة باسم “صوعن”، وعندما جاء الإغريق إلى مصر أطلقوا على المدينة اسم “تانيس” نسبة إلى فرع نهر النيل الذي كانت تقع عليه المدينة وهو الفرع “التانيسي” والذي كان أحد الفروع الرئيسية لنهر النيل قبل أن يجف لاحقًا.
ومع وصول العرب إلى مصر أطلقوا على المدينة اسم “صان” تحريفا لاسم صوعن وأضافوا “الحجر” نظرًا لكثرة الأحجار الضخمة والبقايا الأثرية في المكان، ومن هنا جاءت تسمية “صان الحجر”، حيث كانت المدينة غنية بالآثار والمعابد الحجرية التي بُنيت للآلهة المصرية القديمة.
الموقع الاستراتيجي للمدينة
لعبت تانيس دورًا مهمًا في التاريخ المصري القديم، وكان لموقعها الاستراتيجي أهميته في ذلك حيث جعلها مركزًا مهمًا للتجارة إلى جانب أهميتها العسكرية والدينية.
موقع تانيس على ضفاف نهر النيل -على أحد الفروع القديمة للنيل والذي عرف بـ”الفرع التانيسي”- منحها مزايا اقتصادية وتجارية كبيرة، بالإضافة إلى أنها استفادت من قربها من البحر الأبيض المتوسط، وهو ما سهل التجارة مع دول البحر المتوسط والمناطق المحيطة.
آثار صان الحجر
بدأت أعمال الحفريات الأثرية بمدينة تانيس في القرن التاسع عشر على يد علماء آثار فرنسيين: بيير مونتيه وأوغست مارييت، وتنوعت الاكتشافات الأثرية التي تم العثور عليها ما بين معابد ومقابر ملكية تضم مجموعة رائعة من الآثار، بما في ذلك توابيت وتماثيل وجواهر تعود إلى ملوك الأسرة الحادية والعشرين والثانية والعشرين.
ومن أبرز الاكتشافات الأثرية في مدينة صان الحجر:
– معبد آمون: كان معبد آمون الموجود في مدينة تانيس واحدا من أكبر المعابد في مصر القديمة، ويحتوى المعبد على العديد من الأعمدة والنقوش التي تعكس تاريخ المدينة.
– معبد حورس: وهو أحد المعابد المهمة في تانيس، حيث خصص لعبادة الإله حورس.
– مقبرة بسوسنس الأول: اكتشفت هذه المقبرة في عام 1939 على يد عالم الآثار الفرنسي بيير مونتيه، وتحتوى المقبرة على كنوز ذهبية مذهلة، بما في ذلك قناع ذهبي يشبه قناع توت عنخ آمون.
– مقبرة شيشنق: وهي مقبرة الملك شيشنق الثالث، أحد ملوك الأسرة الثانية والعشرين.
بالإضافة إلى العديد من التماثيل والأعمدة الضخمة والمسلات التي تحمل نقوشًا وكتابات هيروغليفية، تتحدث عن الحياة الدينية والسياسية في المدينة.. وعلى مر السنين، كشفت الحفريات في تانيس عن مجموعة متنوعة من هذه القطع الأثرية، منها تماثيل ضخمة لملوك وآلهة مصرية، ومجوهرات ذهبية وأدوات شخصية تعكس الثراء الملكي.
كنوز تانيس في متاحف العالم
يوجد في صان الحجر العديد من الكنوز الفرعونية التي تم اكتشافها، والتي تم نقل بعضها إلى المتاحف المصرية والعالمية، ومن بين المتاحف التي تعرض جزءا من هذه الكنوز:
– المتحف المصري: يعرض المتحف المصري في القاهرة العديد من القطع الأثرية المكتشفة من تانيس “صان الحجر” إلى جانب التماثيل والمجوهرات والآثار المختلفة التي تعود إلى مصر القديمة.
– متحف اللوفر في باريس: يحتوي متحف اللوفر على عدد من القطع الأثرية المهمة التي تم نقلها من صان الحجر، إلى جانب مجموعات كبيرة أيضا من الآثار المصرية القديمة.
– المتحف البريطاني في لندن: يضم المتحف بعض القطع الأثرية من صان الحجر، بما في ذلك تماثيل ونقوش.
– المتحف الوطني للآثار في هولندا: يعرض المتحف مجموعة من الآثار التي تم العثور عليها في تانيس صان الحجر.
– المتحف المصري ببرلين: يحتوي المتحف على بعض القطع الأثرية من صان الحجر.
– متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك: ويعرض هذا المتحف أيضا بعض القطع الأثرية التي تم العثور عليها في صان الحجر.
وبالإضافة إلى هذه المتاحف الدولية، توجد العديد من القطع الأثرية التي تم العثور عليها في مدينة تانيس في متاحف أخرى حول العالم وداخل مصر.
مسلة ميدان التحرير
تزخر المنطقة الأثرية في صان الحجر بعدد كبير من المسلات الفرعونية، ما يجعلها من أغنى المناطق الأثرية المصرية من حيث عدد المسلات، إذ لا يزال يوجد بها نحو 20 مسلة، هذا إلى جانب المسلات الكثيرة التي خرجت منها وتزين أهم الميادين والساحات المصرية الآن، ومنها: مسلة ميدان التحرير، والمسلة الموجودة في مطار القاهرة الدولي، والمسلة الموجودة أمام القصر الرئاسي الجديد في مدينة العالمين وهي المسلة التي كان تم نقلها سابقا إلى ميدان المطرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتم نقلها حاليا إلى متحف العلمين لتوضع أمام مدخل القصر الرئاسي هناك.
وتتميز جميع مسلات تانيس بالضخامة والنقوش التي تذكر أسماء وألقاب رمسيس الثاني وانتصاراته وأمجاده، بالإضافة نقوش تحتوي على أدعية، مما يضفي عليها قيمة تاريخية وروحانية كبيرة.
إضافة إلى ذلك، توجد في المنطقة الأثرية بصان الحجر بحيرتان مقدستان تُعَدان من أبرز المعالم الأثرية، حيث اكتشفت البعثة الفرنسية خلال أعمال التنقيب، بحيرة مقدسة كاملة مزينة بمناظر تجسد الحياة المصرية القديمة، لكن مع الأسف فقدت البحيرة مياهها ولم يبقَ منها سوى المياه الجوفية على عمق 10 أمتار.
ومن الآثار التاريخية التي ما زالت موجودة إلى الآن، أربعة آبار مياه مشيدة من الحجر الجيري الأبيض، ثلاثة من هذه الآبار على شكل دائري والبئر الرابع مربع الشكل، وكانت هذه الآبار تستخدم لاستخراج المياه إلى داخل المعبد الكبير للإله آمون، وتتميز هذه الآبار بأنه لا يوجد مثلها في العدد أو الشكل في أي منطقة أثرية أخرى في مصر.
ماذا قال الرحالة والمستكشفين عن مدينة تانيس؟
وكتب العديد من الرحالة والمستكشفين عن مدينة تانيس أو صان الحجر كما تعرف حاليا، وقدموا وصفًا مفصلًا لأثارها وتاريخها، من بين هؤلاء: عالم الآثار البريطاني فليندرز بيتشي (Flinders Petrie)، وعالم الآثار والمستكشف الفرنسي أوغست مارييت (Auguste Mariette)، والمستكشف والرحالة الإنجليزي جون جاردنر ويلكينز (John Gardner Wilkinson)، وعالم الآثار الفرنسي جان-بيير مونتيه (Jean-Pierre Montet).
هؤلاء كتبوا عن مدينة تانيس في عدة منشورات وكتب، وتنوعت مواضيع كتاباتهم بين الوصف الأثري والتاريخي والتفسيرات الثقافية:
حيث كتب فليندرز بيتشي، في التقارير التي نشرت عنه، عن حملات الحفريات التي قادها في تانيس، وقدم تفاصيل مهمة حول الاكتشافات الأثرية في هذا المكان، بما في ذلك المعابد والمقابر، كما سلط الضوء على هيكل المدينة القديمة وأهميتها كمركز سياسي وديني في العصور القديمة.
يقول بيتشي: “تمكنا خلال حملتنا الأخيرة في تانيس من اكتشاف مجموعة مهمة من المعابد الضخمة، بالإضافة إلى عدد كبير من المقابر الملكية. تظهر النقوش الحجرية التي وُجِدت في هذه المواقع تفاصيل مهمة حول الحياة اليومية والطقوس الدينية في مصر القديمة”.
أما أوغست مارييت، فكتب تقارير ومقالات في مجلات علمية مثل “Bulletin de l’Institut Egyptien” و”Revue Archéologique”، تناولت اكتشافاته في تانيس، وقدم تفاصيل عن المعابد والمقابر التي اكتشفها، وركز على أهمية تانيس كمركز ثقافي وديني.
قال مارييت: “تمثل المعابد التي اكتشفناها في تانيس مرآة لعظمة الحضارة المصرية القديمة، حيث يتجلى فيها دقة النحت وجمال التماثيل.. كما توضح النقوش على جدرانها تفاصيل حياة الملوك والكهنة وعباداتهم”.
وقدم جون جاردنر ويلكينز، في كتابه “Manners and Customs of the Ancient Egyptians”، وصفًا مفصلًا لعادات وتقاليد الفراعنة والحضارة المصرية القديمة بشكل عام، مشيرًا إلى أهمية تانيس كواحدة من المواقع الرئيسية التي توضح هذه الثقافة.
يقول ويلكينز: “في تانيس، يمكن للزائر أن يستمتع بروح الفراعنة التي لا تزال تتجلى في كل جزء من أرجائها.. تعكس المعابد الضخمة والتماثيل الرائعة فيها عظمة هذه الحضارة القديمة”.
وكتب بيير مونتيه، في كتابه “La nécropole royale de Tanis”، عن تفاصيل اكتشافاته في المقابر الملكية في تانيس، بما في ذلك التوابيت والتحف الأثرية التي وُجِدت فيها.. وسلط الضوء على الأهمية التاريخية لهذه المقابر وتأثيرها على فهمنا لهذه الفترة التاريخية”.
قال مونتيه: “يحتفظ موقع تانيس بكنوز ثمينة تروي قصص عظمة الملوك والملكات القدماء.. تضم المقابر الملكية التي اكتشفناها مجموعة من التوابيت الذهبية والمجوهرات الثمينة، تعكس تراثًا فرعونيًا يبهر العالم”.