الزمان لا يمحي الحقائق وإنما يكشف الأسرار، فبعد مرور نحو 16 عامًا تنكشف اليوم تفاصيل جديدة حول أضخم عملية استهداف لضرب المفاعل النووي الإيراني، التفاصيل كشفها تحقيق استقصائي نشرته صحيفة هولندية، وسلط الضوء على هوية العميل السري الذي قاد عملية إدخال فيروس الكمبيوتر الدودي الخبيث “ستاكسنت” إلى مفاعل تخصيب اليورانيوم الرئيسي في مدينة “نطنز” الواقعة في وسط الجمهورية الإيرانية.
ما هو “ستاكسنت أو ستوكسنت” الذي ضرب مفاعل نطنز؟
فيروس “ستاكسنت أو ستوكسنت” تم اكتشافه في عام 2010 عقب استخدامه في هجوم مفاعل “نطنز”، وهو الهجوم الأول من نوعه الذي يُستخدم فيه فيروس لاستهداف معدات صناعية، هو عبارة برنامج خبيث لأجهزة الكمبيوتر يستهدف أنظمة التحكم الصناعية المستخدمة على نطاق واسع، والتي يتم إنتاجها بواسطة شركة الأتمتة الألمانية “سيمنس ايه جي”، ويستغل الفيروس ثغرات أمان في نظام تشغيل “مايكروسوفت ويندوز”، ويمكن استخدام هذا البرنامج الخبيث لأغراض التجسس أو التخريب.
من وراء الهجوم على المشروع النووي الإيراني؟
الهجوم الإلكتروني الخبيث دبرته أمريكا ودولة الاحتلال بعد تعاون دام لسنوات، لتطوير هذا الفيروس الدودي، وفي ذلك الوقت، قال المسؤولون الإيرانيون إنه أثر على محطة بوشهر النووية المتواجدة على سواحل الخليج العربي، ورغم أن الفيروس كان موجها بشكل أساسي ضد إيران، إلا أنه تسبب في تأثيرات واسعة النطاق على العديد من الدول بعد ذلك،
العميل السري والمخابرات الأمريكية
اليوم تكشفت حقائق جديدة حول هذا الهجوم الذي استهدف المشروع النووي الإيراني، حيث أفصحت جريدة “دي فولكس كرانت” عن تفاصيل مذهلة حول كيفية وصول المخابرات الأميركية ودولة الاحتلال إلى المنشأة الإيرانية شديدة التحصين، بعد مرور عقد ونصف على تلك العملية السرية، والتي تمكن فيها مهندس هولندي، من إدخال معدات ملوثة بالفيروس إلى مفاعل نطنز، الأمر الذي أدى إلى تغيير مسار الأحداث بشكل كبير، بعدما قام هذا المهندس بتركيب هذه المعدات الملوثة على مضخات المياه.
وفقًا للتحقيق الاستقصائي الذي نشرته الصحيفة، فإن المهندس الهولندي “إريك فان سابين” كان عميلاً في جهاز المخابرات والأمن الهولندي “AIVD”، وهو الشخص الذي نجح في الوصول إلى منشأة نطنز لتنفيذ العملية السرية المتقنة، التي استمر العمل عليها لسنوات وشهدت تعاوناً وثيقاً بين وكالة المخابرات المركزية الأميركية وجهاز الموسـ ــاد ، بتكلفة قدرت بمليار دولار لتطوير الفيروس.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” في يناير 2011 كشفت عن وجود تعاون استخباراتي بين الولايات المتحدة وإسـ ـرائيل لتطوير هذا الفيروس، وأشارت مصادر استخباراتية إلى أن إسـ ـ ــرائيل قامت بتجربة فاعلية الفيروس في مجمع ديمونة النووي.
هوية المهندس الهولندي
وفيما يتعلق بدوافع الكشف عن هوية المهندس الذي نفذ هذه العملية الآن، ذكرت الصحيفة الهولندية أن وفاته قد أزالت خطر الانتقام الإيراني منه، وأنه تم النشر بعد موافقة عائلته على الكشف عن اسمه ونشر صورته.
التحقيق قال إن إريك فان سابين، تسلل إلى منشأة نطنز في عام 2007، وقام بتركيب أجهزة ومعدات ملوثة، ظهرت نتائجها بشكل ملحوظ وكبير بعد ثمانية أشهر، حيث تعرض برنامج إيران للتسلح النووي لأكبر ضربة عندما بعدما تعطل 1000 جهاز مركزي في منشأة نطنز.
كان المهندس الهولندي، متزوجًا من فتاة إيرانية، ويعمل في شركة نقل بمدينة دبي، وسافر مرارًا إلى إيران، وتقول شركة النقل “تي تي إس إنترناشيونال” التي عمل فيها إنها أرسلت قطع غيار لصناعة النفط والغاز في إيران في السابق، ولكنها لم تكن على علم بالأنشطة السرية للموظف، الذي كان عميلاً هولنديًا، ولم يتضح ما إذا كان “سابين” قد استغل مهامه في الشركة لاستيراد المعدات النووية إلى إيران، أو ما إذا كان على علم بأن المعدات التي أرسلها إلى نطنز تحتوي على الفيروس المدمر.
في نهاية عام 2008، سافر إريك فان سابين وأسرته إلى إيران لقضاء عطلة نهاية السنة، والتي كان مقررا لها مدة عشرة أيام، ولكنه في اليوم التالي لوصولهم، أصر سابين على مغادرة أسرته ايران فورًا، وتقول زوجته إنه كان منزعجًا للغاية وأصر على أن نغادر على الفور.
توفي بعد اسبوعين
وبعد أسبوعين من مغادرته الغامضة لإيران، توفي فان سابين في حادث دراجة نارية في الشارقة بالقرب من دبي، حيث انقلبت الدراجة النارية وكُسرت رقبته، وأثارت وفاته تساؤلات في جهاز المخابرات الهولندي، حيث كانت هناك مخاوف من أن تكون وفاته لها صلة بأنشطته السرية في إيران.
وأكد ضابط في جهاز المخابرات والأمن العسكري الهولندي، أن التحقيقات التي استغرق عامين لم تظهر أي أدلة على أن الحادث كان متعمدًا.
يُعتبر هذا التحقيق الذي نشرته الصحيفة الهولندية “دي فولكس كرانت” الثاني من نوعه، حيث يأتي كاستكمال للتحقيق المشترك الذي أُجري مع موقع “ياهو نيوز” في عام 2019، وكان ذاك التحقيق المشترك قد كشف عن الدور الحاسم الذي لعبه عميل تابع لجهاز المخابرات العامة والأمن الهولندي في إدخال فيروس “ستاكسنت” إلى المجمع النووي الإيراني، دون الكشف عن هويته.
وأشارت الصحيفة إلى أن هذه العملية قد أثارت تحذيرات من خبراء حينها، حيث حذروا من أن انتشار الفيروس سيؤدي إلى تسارع سباق التسلح السيبراني على الإنترنت، والذي ستنخرط فيه الدول الغربية المتقدمة والقوى الناشئة، بما في ذلك الصين وروسيا.
وفي مارس 2012، صرح المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مايكل هايدن، بأن الفيروس كانت “فكرة جيدة” لتعطيل البرنامج النووي الإيراني، لكنه أشار إلى أنه يشكل سابقة خطيرة.
دور المخابرات الهولندية!
وطرح التحقيق أسئلة حول أسباب عدم إطلاع الحكومة الهولندية وجهاز المخابرات الهولندية ولجنة البرلمان المعنية بالأمن العام والمخابرات على تفاصيل هذه العملية، حيث تشير الصحيفة إلى أن هناك خبراء دوليين ينظرون إلى تخريب البرنامج النووي الإيراني على أنه عمل من أعمال الحرب في حين أن هولندا لم تكن في حالة حرب مع إيران، محذرة من العواقب الجيوسياسية، إذا ثبت تورط أجهزة مخابرات هولندا.
وتُعتبر الحروب الإلكترونية جزءًا أساسيًا من الصراعات الدائرة بين إسـ ـ ــرائيل وإيران، خاصة في سياق الملف النووي الذي يشكل محور النزاع الرئيسي بين طهران والقوى الغربية، وشكل هجوم فيروس “ستاكسنت” إنذارًا في إيران من خطر اعتمادها على البرمجيات والتكنولوجيا والقطع المستوردة من الخارج، خاصةً في ظل تفادي العقوبات.
إحباط خدعة الموسـ ـاد
وأعلنت إيران في نهاية أغسطس الماضي عن إحباط “مؤامرة إسـ ـ ــرائيل” لتخريب برنامجها الذي يهدف لتطوير الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، باستخدام قطع غيار معيبة قدمت من الخارج، وأفاد التلفزيون الإيراني في تلك الفترة أن وحدة المخابرات بوزارة الدفاع أحبطت واحدة من أكبر المؤامرات التخريبية التي استهدفت الصناعات العسكرية للصواريخ والطيران والفضاء في البلاد، كان يقف وراءها جهاز الموسـ ـاد .
وبحسب الرواية الإيرانية، تم الحصول على قطع غيار ورقائق إلكترونية تستخدم في إنتاج الصواريخ المتقدمة والطائرات المسيرة، وأوضح التلفزيون الإيراني أن نجاح الخطة الأمنية أعاق نقل وتوفير قطع الغيار المذكورة، بعدما أحبط خطة الموسـ ـاد وتمكن من تحديد جميع ضباط الموسـ ـاد في الخارج وعناصرهم في الداخل في هذا الفخ الاستخباراتي.