في تطور لافت يعكس التكيف مع ظروف الحرب الحديثة، بدأت القوات الروسية في استخدام منصات سكك حديدية يتم التحكم فيها عن بعد لنقل الإمدادات الحيوية إلى الخطوط الأمامية في أوكرانيا، وتحديدًا في منطقة كراسنوارميسك المشتعلة.
تهدف هذه التقنية الجديدة إلى تقليل المخاطر التي يتعرض لها الأفراد العسكريون، وتعزيز كفاءة الإمداد في ظل تصاعد حدة المعارك.
نقل الإمدادات الحيوية
تضطلع وحدات الإمداد التابعة للواء السكك الحديدية الـ 37 والجيش المشترك للحرس الـ 51 بتشغيل هذه المنصات، التي تنقل الذخيرة والمياه والغذاء، ما يضمن استمرارية العمليات القتالية.
تأتي هذه الخطوة في وقت يشهد فيه محور كراسنوارميسك مواجهات عنيفة، حيث تسعى القوات الروسية إلى تأمين خطوط الإمداد ومنع وصول الدعم إلى القوات الأوكرانية.
تأمين خطوط الإمداد
أفاد دينيس بوشيلين، رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من طرف واحد، أن القوات الروسية تسيطر على جزء كبير من الجبهة، وتعزل طرق الإمداد التابعة للعدو، وفي هذا السياق، تعمل المنصات التي يتم تشغيلها عن بعد على تلبية حاجة ملحة تتمثل في توصيل حمولات ثقيلة على مسافات طويلة في منطقة قتال.
تستطيع هذه المنصات حمل أكثر من طن من البضائع، وتتحرك لمسافة تصل إلى 50 كيلومترًا على طول خطوط السكك الحديدية القائمة، ويتحكم المشغلون بها من مسافة آمنة، معتمدين على تصميم بسيط ومتين يتطلب الحد الأدنى من الصيانة.
مزايا المنصات الجديدة
بالمقارنة مع الشاحنات أو القطارات المأهولة، تقلل هذه المنصات من خطر التعرض للهجمات، وهو مصدر قلق ملح بالنظر إلى النجاح الذي حققته أوكرانيا في استهداف خطوط الإمداد الروسية، وقد سلط مراقبون عسكريون على منصة “X” الضوء على ظهور هذه المنصات وقدرتها على نقل الإمدادات الأساسية إلى المواقع الأمامية.
على الرغم من أن التفاصيل لا تزال شحيحة، أكدت وزارة الدفاع الروسية نطاق النظام واستخدامه العملياتي، علمًا بأنه لم يتم الكشف عن أي مواصفات رسمية حتى الآن.
السكك الحديدية الروسية
لفهم أهمية هذه المنصات، يجب الأخذ في الاعتبار اعتماد روسيا العميق على السكك الحديدية في الإمداد العسكري، إذ تمتلك البلاد واحدة من أكبر شبكات السكك الحديدية في العالم، والتي تمتد على مسافة 105 آلاف كيلومتر، مع كهربة 51% منها.
تهيمن السكك الحديدية على حركة الشحن، وتنقل حجمًا أكبر من البضائع مقارنة بالطرق البرية أو الجوية، وتحتفظ القوات المسلحة الروسية بخدمة قوات السكك الحديدية المتخصصة، والتي تأسست في عام 1851 في عهد الإمبراطور نيكولاس الأول، والمكلفة ببناء وصيانة وحماية البنية التحتية للسكك الحديدية خلال النزاعات.
تاريخ قوات السكك الحديدية
خلال الحرب الروسية التركية في الفترة 1877-1878، قامت هذه القوات ببناء طريق بندر-غالاتي لإمداد القوات الروسية، وفي الحرب العالمية الأولى، قاموا ببناء 300 كيلومتر من المسارات واسعة النطاق وترميم أكثر من 4600 كيلومتر، واليوم، يقوم اللواء 37 للسكك الحديدية بفحص وإصلاح المسارات في كراسنوارميسك، ما يضمن قدرة المنصات على العمل على الرغم من أضرار المعركة.
يمثل هذا التطور ابتكارًا عمليًا، إذ يعطي التصميم الأولوية للبساطة، وتجنب أجهزة الاستشعار المعقدة أو أنظمة الملاحة المتقدمة الموجودة في الطائرات بدون طيار الحديثة.
مقارنة بأنظمة الإمداد الأخرى
يتناقض هذا مع أنظمة الإمداد المستقلة الغربية، مثل برنامج “القائد-التابع” التابع للجيش الأمريكي، الذي يستخدم شاحنات شبه مستقلة مزودة بأجهزة “ليدار” ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS) لعمليات القوافل، وتعتمد المنصات الروسية، التي يُحتمل أن تكون قائمة على عربات سكك حديدية مسطحة مُعدلة، على مسارات موجودة مسبقًا وأنظمة تحكم عن بعد أساسية.
يقوم مشغل واحد، متمركز على بعد كيلومترات، بتوجيه العربة باستخدام إشارات الراديو أو الأقمار الصناعية، ويقلل غياب الإلكترونيات المتطورة من التكاليف وقابلية التعرض للحرب الإلكترونية، وهو تهديد متزايد في أوكرانيا، حيث ينشر الجانبان تكتيكات التشويش والاختراق.
المنصات الصينية والأنظمة الغربية
للمقارنة، يستخدم جيش التحرير الشعبي الصيني مركبات لوجستية مستقلة، مثل مركبات “نورينكو يو جي في” (Norinco UGVs)، التي تدمج الذكاء الاصطناعي المتقدم وأجهزة استشعار لرسم الخرائط التضاريسية.
تتنقل هذه الأنظمة في البيئات الوعرة، على عكس المنصات الروسية المقيدة بالسكك الحديدية، وفي الوقت نفسه، تجرب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) طائرات بدون طيار مثل “جي يو إس إس” (GUSS [Ground Unmanned Support Surrogate]) التابعة لقوات مشاة البحرية الأمريكية، والتي تحمل ما يصل إلى 1800 رطل عبر التضاريس الوعرة.
تحديات وعقبات
يعكس اختيار روسيا للخدمات اللوجستية القائمة على السكك الحديدية جغرافيتها الفريدة وبنيتها التحتية، فنظرًا للمسافات الشاسعة وشبكات الطرق المحدودة في مناطق القتال، توفر السكك الحديدية عمودًا فقريًا موثوقًا لنقل الأحمال الثقيلة، خاصة في تضاريس السهوب المسطحة في شرق أوكرانيا.
ومع ذلك، تواجه المنصات تحديات كبيرة، فخطوط السكك الحديدية، الثابتة والتي يمكن التنبؤ بها، تجعلها أهدافًا سهلة للتخريب.
هجمات على خطوط الإمداد
أدى الهجوم الذي وقع في كانون الأول/ديسمبر 2023 على نفق “سيفيرومويسكي” في شرق روسيا إلى تأخيرات استمرت أسابيع، وفي جنوب أوكرانيا المحتلة، هدمت أوكرانيا جسرًا للسكك الحديدية قيد الإنشاء جزئيًا بالقرب من ماريوبول، ما أحبط الجهود الروسية لتجاوز جسر كيرتش الضعيف.
تسلط هذه الحوادث الضوء على هشاشة الخدمات اللوجستية القائمة على السكك الحديدية، خاصة في المناطق المتنازع عليها مثل كراسنوارميسك، حيث لا تزال الطائرات بدون طيار والمدفعية الأوكرانية نشطة.
الوضع في كراسنوارميسك
يزيد السياق العملياتي في كراسنوارميسك من أهمية المنصات، وتواجه القوات الروسية ضغوطًا متزايدة للحفاظ على تقدمها وسط قتال عنيف، وتشير التقارير الأخيرة إلى قتال مكثف بالقرب من “رودينسكوي”، وهي مركز لوجستي أوكراني.
عانت الوحدات الروسية من نقص في الإمدادات، تفاقم بسبب الضربات الأوكرانية بعيدة المدى على المستودعات والقوافل.
نظام “Msta-S”
دمر نظام المدفعية ذاتية الدفع “Msta-S”، الذي تشغله مجموعة قوات “تسينتر”، مؤخرًا موقع إطلاق نار أوكرانيًا في كراسنوارميسك، ما يشير إلى الجهود المستمرة لتأمين المنطقة، ومع ذلك، لا تزال الاختناقات اللوجستية قائمة.
تكافح قوافل الشاحنات التقليدية، المعرضة لكمائن، لتقديم ما يكفي من الذخيرة والوقود، وتقدم المنصات التي يتم تشغيلها عن بعد حلاً جزئيًا، حيث تنقل الإمدادات على طول خطوط السكك الحديدية التي تم إصلاحها تحت غطاء الدفاعات الجوية.
السكك الحديدية في التاريخ العسكري
تاريخيًا، اعتمد الجيش الروسي بشكل كبير على السكك الحديدية، وخلال الحرب العالمية الثانية، نقل الاتحاد السوفيتي مصانع بأكملها إلى شرق جبال الأورال عبر السكك الحديدية، ما حافظ على المجهود الحربي ضد ألمانيا النازية، وفي أفغانستان، دعمت خطوط السكك الحديدية إلى المستودعات الحدودية الخدمات اللوجستية السوفيتية.
في الآونة الأخيرة، افتتحت روسيا خط سكة حديد في ماريوبول المحتلة في آب/أغسطس 2024، ما أدى إلى تقصير طرق الإمداد بمقدار 300 كيلومتر وتقليل الاعتماد على جسر كيرتش، ويعتمد نشر كراسنوارميسك على هذا الإرث، وتكييف البنية التحتية القديمة مع الاحتياجات الحديثة.
محددات المنصات الجديدة
تعتبر بساطة المنصات قوة وحدًا، فبدون أجهزة استشعار متقدمة، لا يمكنها اكتشاف العوائق أو التكيف مع المسارات المتضررة، ويجب أن يعتمد المشغلون على معلومات استخبارية في الوقت الفعلي من الطائرات بدون طيار أو الوحدات البرية لضمان المرور الآمن.
يتناقض هذا مع استخدام “إسرائيل” لطائرات لوجستية مستقلة بدون طيار، مثل “هيرميس 900” التابعة لشركة “إلبيت سيستمز”، والتي تدمج التصوير الحراري والذكاء الاصطناعي للملاحة.
التأثير التكتيكي والجيوسياسي
من وجهة نظر تكتيكية، تعزز المنصات قدرة روسيا على الحفاظ على الاشتباكات المطولة، ومن خلال تقليل الحاجة إلى القوافل المأهولة، فإنها تحرر الأفراد لأدوار قتالية، وتعني عمليات التسليم الأسرع أن وحدات المدفعية، مثل “Msta-S”، يمكنها الحفاظ على معدلات إطلاق النار دون استنفاد الاحتياطيات، وتتوافق المنصات أيضًا مع دفع روسيا الأوسع نحو الأتمتة.
بالإضافة إلى ذلك، استثمرت السكك الحديدية الروسية، وهي شركة عملاقة مملوكة للدولة، في التقنيات الرقمية منذ عام 2019، بهدف أتمتة 90% من عمليات الشحن بحلول عام 2025.
من الناحية الجيوسياسية، يشير الانتشار إلى تصميم روسيا على التكيف وسط صراع مرهق، وكشفت الحرب في أوكرانيا عن نقاط ضعف لوجستية، ما أدى إلى ابتكارات مثل منصات السكك الحديدية، وبالمقارنة مع الخدمات اللوجستية لحلف شمال الأطلسي، التي تعتمد على عمليات النقل الجوي وشبكات الطرق، يعكس النهج الروسي المرتكز على السكك الحديدية أولويات استراتيجية مختلفة.
نقاط الضعف
يشكك النقاد في الجدوى طويلة الأجل للمنصات، ويبقى التخريب تهديدًا مستمرًا، وقد أعلنت المخابرات الأوكرانية مسؤوليتها عن هجمات السكك الحديدية، بما في ذلك حادث خروج عن مساره في حزيران/يونيو 2025 في “بريانSK” أسفر عن مقتل سبعة وإصابة 66.
وبغض النظر عن ذلك، فإن نمط التخريب يؤكد على ضعف المنصات، فخطوط السكك الحديدية الثابتة، على عكس القوافل المتنقلة، توفر أهدافًا يمكن التنبؤ بها.
مخاطر الحرب الإلكترونية
علاوة على ذلك، فإن اعتماد المنصات على المشغلين البشريين يحد من استقلاليتها، وعلى عكس الأنظمة المستقلة تمامًا، مثل “SMET” [نقل معدات متعدد الأغراض للفرقة] التابع للجيش الأمريكي، والذي يتنقل بشكل مستقل، تتطلب المنصات الروسية إشرافًا مستمرًا.
يعرض هذا المشغلين للحرب الإلكترونية، وهو مجال تفوقت فيه أوكرانيا، وقد يؤدي تشويش الإشارات إلى تعطيل التحكم، ما يؤدي إلى تقطع السبل بالبضائع القيمة، وستؤدي إضافة تدابير مضادة متقدمة، مثل تقنية مقاومة التشويش، إلى زيادة التكاليف والتعقيد، ما يقوض الميزة الأساسية للمنصات: البساطة.
تحديات لحلف الناتو
تمتد الآثار الأوسع إلى ما وراء أوكرانيا، ويعكس استثمار روسيا في الخدمات اللوجستية للسكك الحديدية رهانًا استراتيجيًا على النزاعات الدائمة، ومن خلال تحديث قوات السكك الحديدية التابعة لها، تهدف روسيا إلى البقاء في حروب الاستنزاف، ويوضح استيلاء السكك الحديدية الروسية على السكك الحديدية الأرمينية في عام 2008، باستثمارات بلغت 230 مليون دولار في عمليات التحديث، تركيز “موسكو” طويل الأجل على السكك الحديدية كأصل استراتيجي.
بالنسبة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، يمثل هذا التطور تحديات غير مباشرة، ففي حين أنه ليس تهديدًا مباشرًا، فإن قدرة روسيا على إعالة قواتها تعقد الدعم الغربي لأوكرانيا.
دروس مستفادة
من منظور الولايات المتحدة، تقدم المنصات دروسًا في مجال الخدمات اللوجستية القابلة للتكيف، فتركيز “البنتاغون” على الحلول عالية التقنية، مثل الصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، يطغى أحيانًا على الابتكارات العملية، وتحل المنصات الروسية، على الرغم من بدائيتها، مشكلة فورية: توصيل الإمدادات تحت النار.
أخيرًا، تعكس منصات السكك الحديدية التي يتم تشغيلها عن بُعد في روسيا اتجاهًا أوسع: الجيوش التي تكيّف الأدوات القديمة مع الحروب الجديدة، فالسكك الحديدية، التي كانت ذات يوم العمود الفقري لحملات القرن التاسع عشر، تعمل الآن كشريان حياة في صراع مشبع بالطائرات بدون طيار.