رحلة مناسك الحج، هي تلك الرحلة الإيمانية التي تتجلى فيها أسمى معاني الإيمان والتقوى، والتي يتوافد فيها المسلمون من شتى بقاع الأرض إلى الكعبة المشرفة “بيت الله الحرام” بمكة المكرمة، تلك البقعة المباركة التي اختارها الله موطناً لأول وأعظم بيت بُني للناس.
من كل فجٍ عميق يأتي الحجيج مرددين: “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك”، إنها تلبيةً لأمر الله تعالى ونداء خليل الله إبراهيم عليه السلام: “وأذن في الناس بالحج”.
في رحلة الحج، تتجلى الوحدة الإسلامية العالمية متجاوزة كل الحدود العرقية واللغوية والجغرافية، ويسمو الزهد والتواضع بارتداء الحجاج لباس الإحرام متجردين به من مظاهر الدنيا وزخرفها، ساعين إلى رضا الله وغفرانه.
إنها رحلة للروح قبل أن تكون للجسد، يتصل فيها المؤمن بربه عز وجل، ويغمر فيها السلام النفوس، وتطهر فيها القلوب، وتُعمر فيها الأرواح بالإيمان، فيها يتساوى الفقير بالغني، والقوي بالضعيف، لا فرق بينهم إلا بالتقوى.
في هذه الرحلة، يتجلى النور الإلهي في قلوب المؤمنين، ليعودوا إلى ديارهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، طَاهرَةً أرواحهم وقد غفرت ذنوبهم، محملين بزادٍ من الإيمان يقودهم فيما تبقى من مسيرة حياتهم على السير في دروب الخير والتقوى.
نستعرض في هذا التقرير، أهمية الحج، ومتى فرض الحج، ومراحل مناسك الحج من بدايته إلى نهايته ومواقيت الإحرام المكانية بالتفصيل:
أهمية الحج
– ركن من أركان الإسلام: الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو فرض فرضه الله عز وجل على كل مسلم بالغ عاقل، وقادر ماليًا وجسديًا على أداء هذه الفريضة، والفرض يكون مرة واحدة في العمر.. قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وأذن في الناس بالحج} (سورة الحج، الآية 27).
– تعزيز الوحدة الإسلامية: في موسم الحج كل عام يجتمع المسلمون من مختلف الأجناس والأعراق من شتى بقاع الأرض في مكان واحد، يرتدون إحرامًا بسيطًا، ليعكسوا روح المساواة والوحدة بين المسلمين.
– تطهير النفس: يمثل الحج فرصة لتطهير النفس من الذنوب والمعاصي، إذ يقول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” (رواه البخاري).
متى فرض الحج؟
فرض الحج في السنة التاسعة من الهجرة، بعد أن استقر الوضع في المدينة المنورة وقويت شوكة المسلمين، وقد جاء الأمر بفرضية الحج في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج} (سورة الحج، الآية 27).
مراحل مناسك الحج بالتفصيل
1. الإحرام
والإحرام هو نية الدخول في مناسك الحج، حيث يرتدي الرجال لباس الإحرام وهو عبارة عن إزار ورداء غير مخيطين -أي ليس به خياطة-، بينما النساء يرتدين ملابس عادية مع تجنب تغطية الوجه والكفين.
وهناك أماكن محددة يجب أن يحرم منها الحجاج، تعرف هذه الأماكن بمواقيت الإحرام المكانية، ومعرفة هذه المواقيت المكانية والالتزام بها جزء مهم من فريضة الحج، حيث تبدأ منها رحلة ومناسك الحاج بالنية والملبس.
مواقيت الإحرام المكانية
توجد خمسة أماكن محددة يجب أن يحرم منها الحجاج القادمون من جهتها -برا أو جوا أو بحرا- من شتى بقاع الأرض، كل حسب جهته ومنطقته، وهذه الأماكن هي:
– ذو الحليفة (أبيار علي): وتقع على بعد حوالي 450 كم شمال مكة المكرمة، وهي مخصصة لأهل المدينة المنورة ومن يمر بهم.
– الجحفة (رابغ): تقع قرب مدينة رابغ على بعد حوالي 183 كم شمال غرب مكة، وهي مخصصة لأهل الشام ومصر والمغرب العربي ومن يمر بهم، ويحرم حاليا الحجاج عادة من رابغ لأنها أقرب للجحفة.
– قرن المنازل (السيل الكبير): تقع على بعد حوالي 75 كم شرق مكة، وهي مخصصة لأهل نجد والطائف ومن يمر بهم.
– يلملم (السعدية): تقع على بعد حوالي 92 كم جنوب مكة، وهي مخصصة لأهل اليمن ومن يمر بهم.
– ذات عرق: تقع على بعد حوالي 94 كم شمال شرق مكة، مخصصة لأهل العراق ومن يمر بهم. (في الوقت الحاضر، غالبًا ما يُحرم الحجاج من مناطق أخرى أقرب).
من أين يحرم أهل السعودية والمناطق القريبة؟
بالإضافة الخمس مواقيت المكانية الرئيسية للإحرام، هناك ترتيبات محددة لأهل مكة وأهل السعودية بحسب المناطق التي يأتون منها:
– أهل جدة والطائف: يمكنهم الإحرام من منازلهم أو من أي مكان قبل الوصول إلى حدود الحرم.
– أهل مكة: يحرمون من داخل مكة للحج، ومن خارج حدود الحرم إذا أرادوا العمرة (مثل التنعيم أو الجعرانة).
من أين يحرم القادمون للحج جوا؟
عندما يسافر الحجاج إلى مكة المكرمة بالطائرة، يجب عليهم الإحرام عند محاذاة طائرتهم لميقاتهم الجوي المحدد، وهي النقاط المحددة التي يمرون من فوقها بالطائرة، وهنا يجب أن يكون الحاج جاهزًا لارتداء ملابس الإحرام وتحديد النية لدخول مناسك الحج.
وعادةً ما يقوم قائد أو طاقم الطائرة بإعلان اقتراب الوصول إلى الميقات الجوي ليتمكن الحجاج من نية الإحرام قبل المحاذاة.
ويحرم القادمون من إفريقيا -عدا شمال إفريقيا- من يلملم (السعدية)، أما القادمون من أوروبا وتركيا غالبًا ما يحرمون من الجحفة (رابغ)، والقادمون من إيران وآسيا الوسطى غالبًا ما يحرمون من ذات عرق.
2. الطواف
بعد وصول الحجاج إلى مكة، يقومون بالطواف حول الكعبة المشرفة سبعة أشواط، وذلك تعبيرًا عن حبهم وتعظيمهم لله؛ ويبدأ الطواف من الحجر الأسود ويكون الدوران عكس عقارب الساعة، ويُستحب أن يقبّل الحاج الحجر الأسود إن استطاع، وإلا يكتفي بالإشارة إليه.
3. السعي بين الصفا والمروة
وبعد الطواف، يسعى الحجاج مشيا بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواط، وذلك اقتداءً بالسيدة هاجر عندما كانت تبحث عن الماء لابنها إسماعيل في الصحراء.. ويبدأ الحاج بالسعي من الصفا وينتهي عند المروة، ويعد كل ذهاب وعودة شوطًا واحدًا.
4. يوم التروية – 8 ذو الحجة
وهو أول أيام الحج الفعلي، والذي يتوجه فيه الحجاج إلى منى، حيث يصل الحجاج إلى منى ويقيمون فيها طوال اليوم، ويصلون الصلوات الخمس هناك قصرًا دون جمع.
وسمي يوم التروية بهذا الاسم لأن الحجاج كانوا يرتوون فيه بالماء ويحملون معهم ما يكفيهم من الماء ليوم عرفة والأيام التالية، حيث كانت المناطق المحيطة بمكة قليلة الموارد المائية في الأزمنة القديمة.
5. يوم عرفة – 9 ذو الحجة
الوقوف بعرفة هو أهم ركن من أركان الحج، حيث يبدأ الحجاج يومهم بالانتقال من منى إلى صعيد عرفات بعد صلاة فجر يوم التاسع من ذي الحجة، ويصل الحجاج إلى عرفات في وقت مبكر ليتمكنوا من الوقوف بعرفة طوال النهار، حيث يقضون اليوم في الدعاء والتضرع إلى الله حتى غروب الشمس.
6. المزدلفة – ليلة 10 ذو الحجة
المزدلفة هي المنطقة بين عرفات ومنى، حيث يبيت فيها الحجاج ليلة العاشر من ذو الحجة.. فبعد غروب الشمس، يبدأ الحجاج في الانتقال إلى المزدلفة بهدوء وسكينة، وعند الوصول إليها يصلون المغرب والعشاء جمع تأخير ويبيتون هناك، ويجمع الحجاج الحصى في مزدلفة استعدادًا لرمي الجمرات في اليوم التالي.
7. يوم النحر – 10 ذو الحجة
– رمي جمرة العقبة الكبرى: في صباح اليوم العاشر من ذي الحجة “يوم العيد” يرمي الحجاج جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات.
– الذبح والحلق أو التقصير: وبعد رمي الجمرات، يذبح الحاج الهدي (الأضحية) ثم يحلق رأسه أو يقصر شعره.
– طواف الإفاضة: وبعد ذبح الأضحية والحلق، يتوجه الحاج إلى المسجد الحرام لأداء طواف الإفاضة.
– السعي: وإذا لم يكن الحاج قد سعى بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم، يقوم بالسعي بعد طواف الإفاضة.
8. رمي الجمرات الثلاثة – من 11 إلى 13 ذو الحجة
يرمي الحجاج الجمرات الثلاث (الصغرى والوسطى والكبرى) في أيام التشريق الثلاثة وهي (11 و12 و13 ذي الحجة)، بحيث يرمي كل يوم بعد الزوال بسبع حصيات لكل جمرة، وعلى الحجاج المبيت في منى خلال هذه الأيام.
9. طواف الوداع
وطواف الوداع هو آخر مناسك الحج، ويجب على الحاج أداؤه قبل مغادرته مكة، وهو بمثابة وداع للكعبة المشرفة ومكة المكرمة.
وبهذه المراحل الـ9 تنتهي مناسك الحج، ويعود الحاج من حجه إذا لم يرفث ولم يفسق كيوم ولدته أمه.
ولمن لم يحظى بالسفر إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج، عليه أن يغتنم فضل يوم عرفة والأيام العشر من ذي الحجة.