خلال الساعات القليلة الماضية، أعلنت كل من “بوركينا فاسو ومالي والنيجر” انسحابهم من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، وجاء قرار البلدان الثلاثة في بيان مشترك بين المجالس العسكرية الحاكمة فيها، تُلي على وسائل الإعلام الرسمية.
أسباب الانسحاب
يأتي قرار الانسحاب نتيجة لتوتر العلاقات بين الدول الثلاث و”الإيكواس” خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديدًا منذ أن استولى الجيش على السلطة في مالي عام 2020، وفي بوركينا فاسو عام 2022، وفي النيجر عام 2023، ونتيجة لهذه الانقلابات اتخذت الإيكواس سلسلة من المواقف ضد هذه الدول هدفت لوقف موجة الانقلابات خشية من أن تتوسع لتشمل دول أخرى في الساحل الأفريقي، والضغط من أجل عودة الرؤساء المدنيين المخلوعين إلى السلطة مرة اخرى، كما فرضت المنظمة الإقليمية عقوبات شديدة على مالي والنيجر، وذهبت إلى حد التهديد باستخدام القوة إزاء الانقلابين في النيجر، وعلقت مشاركة الدول الثلاث في مؤسساتها.
فى المقابل اتهمت الدول الثلاث المعاقبة، فى بيان مشترك، منظمة “الإيكواس” بأنها: “تحت تأثير قوى أجنبية، تخون مبادئها التأسيسية وباتت تشكل تهديدا لدولها الأعضاء وشعوبها” -فى إشارة إلى تبعية المنظمة إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي، وتنفيذ أجندتيهما في المنطقة-، وأوضح البيان أنه “بعد 49 عاما من تأسيس الإيكواس، تلاحظ شعوب بوركينا ومالي والنيجر الباسلة بأسف شديد ومرارة وخيبة أمل كبيرة أن منظمتهم ابتعدت عن مُثُل آبائها المؤسسين والوحدة الأفريقية”، واعتبرت الدول الثلاث أن العقوبات المفروضة تمثل “موقفا غير عقلاني وغير مقبول” في وقت “قررت هذه الدول أن تأخذ مصيرها بأيديها”، في إشارة إلى الانقلابات التي أطاحت بالأنظمة المدنية
فى المقابل كشفت مجموعة “الإيكواس” في بيان لها عبر موقعها الرسمي، أنها لم تتلق إخطارًا رسميًا مباشرًا من الدول الأعضاء الثلاث بشأن عزمهم الانسحاب من المنظمة. وأوضح البيان أن “الإيكواس” ظلت تعمل بجد مع هذه البلدان من أجل استعادة النظام الدستوري، وتظل بوركينا فاسو والنيجر ومالي أعضاء مهمين فى الجماعة وتظل السلطة ملتزمة بإيجاد حل تفاوضي للمأزق السياسي. ولم يتطرق البيان إلى الاتهامات التي وجهتها الدول الثلاث “للإيكواس”، واكتفت فقط بالإشارة إلى اعتزامها إصدار المزيد من التصريحات مع تطور الوضع.. نص بيان الإيكواس.. اضغط هنــــــــــــــــــــــــــــــــا
وأمام هذا الوضع المتأزم، أُثير تساؤلات حول التأثيرات المتوقعة لانسحاب الدول الثلاث على مستقبل المجموعة الإقتصادية لدول غرب أفريقيا؟ وهل يعتبر الانسحاب مؤشرًا على تفكك وانهيار مجموعة “الإيكواس أم لا”؟.. وللإجابة على هذين السؤالين سنتطرق أولًا إلى الحديث عن الدور الفرنسي في أفريقيا، بعدها ننتقل إلى الحديث عن “الإيكواس” والدور الذي لعبته في الدول سالفة الذكر بعد سلسلة الانقلابات العسكرية الأخيرة مع تفنيد اتهامات دول بوركينا فاسو والنيجر ومالي للمنظمة.
الدور الفرنسي
تمثل القارة الأفريقية إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الفرنسية، ويرجع تاريخ الهيمنة الفرنسية على أفريقيا إلى القرن السابع عشر، حيث بدأت فرنسا احتلال مناطق القارة واستغلال سكانها المحليين منذ 1624 عبر إنشاء أول مراكزها التجارية في السنغال، بعدها تأسس الإرث الاستعماري والنفوذ الفرنسي في إفريقيا منذ مؤتمر برلين سنة 1884 الذي قسم القارة الأفريقية بين نفوذ قوى دولية استعمارية.
ولم ينته الدور الفرنسي في أفريقيا باستقلال دول القارة السمراء عنها، حيث ظلت متشبثة بالمكتسبات التي حصلت عليها عنوة بفضل احتلالها هذه الدول وبما تلا ذلك من اتفاقيات الاستقلال، وأصبح هناك 25 دولة إفريقية يمثلون ما يقرب نصف القارة يتكلمون الفرنسية، وفي منتصف التسعينيات تم ربط وزارة التعاون الدولي مع قارة إفريقيا بوزارة الخارجية لضمان فاعلية التواصل مع قضايا القارة، وتعتبر فرنسا الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الأفريقية، حتى أن أفريقيا تمثل أحد ثلاثة عوامل داعمة لمكانة فرنسا الدولية بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن والقدرة النووية.
وقد مثلت الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة تحولا هيكليا في بنية العلاقات الفرنسية-الأفريقية، بفعل تأجيج الاستياء الشعبي ضد فرنسا في منطقة غرب أفريقيا بسبب السياسات الاقتصادية التاريخية التى ربطت المصائر الاقتصادية للعديد من دول غرب أفريقيا بفرنسا (الفرنك الأفريقي)، وتفاقمت هذه المشاعر نتيجة التدخلات الواقعية في الشئون السياسية لهذه الدول، إلى جانب مصائر القادة الذين قاوموا النفوذ الفرنسي.
واتجهت هذه البلدان بعد الانقلابات الأخيرة إلى التخلص من النفوذ الفرنسي، عبر طرد القوات العسكرية الفرنسية الموجودة فى على أراضيها والاعتماد على قوى إقليمية أخرى مثل روسيا والصين، واعتبر وزير الجيوش سيباستيان لوكورنو، في حديث نشرته صحيفة “لو باريزيان” الفرنسية على موقعها الإلكتروني، أن انسحاب القوات العسكرية الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو من النيجر، لا يعد إخفاقا للسياسة الفرنسية بقدر ما هو “فشـل” لهذه الدول الـ”3″ التي شهدت انقلاب عسكري في الأعوام الأخيرة. محذرًا من “انهيار” منطقة الساحل الإفريقية في ظل تصاعد أنشطة التنظيمات الإرهابية وتراجع حضور باريس في أعقاب سلسلة من الانقلابات العسكرية في بعض دولها.
ما هي “الإيكواس”؟
«الإيكواس» هي منظمة إقليمية حكومية يقع مقرها في العاصمة النيجيرية “أبوجا”. وتأسست في عام 1975 من أجل التكامل الاقتصادي بين دول غرب أفريقيا، وهي إحدى تجمعات الاقتصاد الـ”8″ التابعة للاتحاد الأفريقي، وتضم 15 دولة إفريقية، هي: بنين، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، وغامبيا، وغانا، وغينيا، وغينيا بيساو، وليبيريا، ومالي، والنيجر، نيجيريا، والسنغال، وسيراليون، وتوجو، والرأس الأخضر، وتشمل المنظمة عدة مديريات ومؤسسات، ولها ثلاث لغات رسمية: الإنجليزية، الفرنسية والبرتغالية.
فى البداية كانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “الإيكواس” منظمة اقتصادية فقط، ومع مرور الوقت أجرت تعديلات على الاتفاقيات المنشأة لها، وأضافت مضامين عسكرية وأمنية وسياسية إلى جانب المضامين الاقتصادية، وذلك من خلال تطوير أطرها وأدواتها الرئيسية لمنع الصراعات وإدارتها وهي البروتوكول المتعلق بآلية منع الصراعات وإدارتها وحلها وحفظ السلام والأمن عام 1999 والبروتوكول المتعلق بالديمقراطية والحكم الرشيد عام 2001.
وسعت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا إلى تعزيز الديمقراطية بطريقتين رئيستين؛ الأولى من خلال توسيع دورها فى مراقبة الانتخابات بالتالي تسعى إلى منع القادة من الوصول إلى السلطة من خلال انتخابات غير نزيهة، والطريقة الثانية: أن تبني بروتوكول الديمقراطية والحكم الرشيد فى عام 2001 يترجم عمليا إلى موقف عدم التسامح مطلقا ضد التغيرات غير الدستورية للسلطة (الانقلابات العسكرية) ويمنح الحق فى فرض عقوبات ضد الحكومات غير الشرعية.
تفنيد اتهامات مالي وبوركينا فاسو والنيجر
وفقا لما سبق فإن الهدف الذي سطّرته منظمة “الإيكواس” لنفسها منذ تسعينيات القرن الماضي هو تحصين إقليم غرب أفريقيا – الذي يُعرف باسم “حزام الانقلابات” – من الاستبداد العسكري، (شهدت منطقة غرب ووسط أفريقيا 8 انقلابات عسكرية منذ 2020 كان آخرها فى الجابون في أواخر أغسطس 2023)، والعمل على تحوّل دول المنطقة نحو الديمقراطية، غير أنّ شبهة تبعيتها لمصلحة فرنسا والاتحاد الأوروبي، وتنفيذ أجندتيهما في المنطقة، تشوب عمل المنظمة ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الأحداث التي شهدتها هذه الدول في السنوات الأخيرة. فمنذ إنقلاب أغسطس 2020، مروراً بانقلاب مايو 2021، فرضت “الإيكواس” سلسلة من العقوبات شملت تعليق عضوية مالي في المنظمة، وفرض عقوبات على أكثر من مائة شخصية اتهمتها “إيكواس” بعرقلة الانتقال السياسي وتسريع عقد الانتخابات.
وشملت العقوبات أيضًا إغلاق الحدود البرية والجوية بين الدول المنتمية للمجموعة ودولة مالي؛ ووقف كل أشكال التبادل الاقتصادي والتجاري مع مالي باستثناء الأدوية والمواد الغذائية الأساسية، وتجميد حسابات مالي في البنك المركزي لدول غرب أفريقيا الذي يضم الدول المستخدمة للفرنك الأفريقي؛ وسحب سفراء دول المجموعة من باماكو، هذه العقوبات التى وصفها محللون بـ”القاسية جداً”، جاءت بعد 5 أيام فقط من خطاب للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، “طلب” فيه من المنظمة اتخاذ “التدابير اللازمة” “لاستعادة الديمقراطية” في مالي.
وطالبت فرنسا، فى يناير 2022، الاتحاد الأوروبي بالموافقة على فرض عقوبات على مالي تماشيا مع تعليمات المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وقال وزير الخارجية الفرنسي آنذاك جان إيف لودريان لوكالة فرانس برس، إن إجراءات الاتحاد الأوروبي ستتماشى مع العقوبات غير المسبوقة المتفق عليها مع المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس) والتي دعمتها باريس بقوة، سنقترح تطبيق هذه العقوبات على المستوى الأوروبي، سواء تلك المفروضة على الزعماء الماليين أو أيضا الإجراءات الاقتصادية والمالية”. وجاءت كل هذه العقوبات بعد إعلان المجلس العسكري الحاكم في مالي، الانسحاب من اتفاقيات الدفاع الرئيسية مع فرنسا.
وفرضت المنظمة عقوبات مماثلة على كل من بوركينا فاسو والنيجر في أعقاب الانقلابات العسكرية، المناهضة للحكومات الموالية للغرب التي شهدتها تلك البلدان. ولم يقتصر الأمر على العقوبات فى النيجر، بل هدّدت المجموعة باتخاذ إجراءات، تشمل استخدام القوة العسكرية، وأعربت فرنسا عن “دعمها الكامل لكل القرارات” التي تبنتها قادة المجموعة الاقتصادية “إيكواس” بشأن دولة النيجر، ومنها نشر “القوات الاحتياطية” للمنظمة من أجل استعادة النظام الدستوري.
في المقابل أعلنت بوركينا فاسو ومالي، أنّ أي تدخل عسكري يستهدف النيجر إعلان حرب ضدهما، وفي 17 سبتمبر2023، وقّعت مالي والنيجر وبوركينا فاسو “ميثاق ليبتاجو-جورما” المؤسس لتحالف دول الساحل الثلاث والذي يهدف إلى إنشاء هيكلة للدفاع المشترك بين هذه الدول الثلاث، وهذا يعني أن الحرب لن تكون ضد دولة واحدة وإنما هي ضد مجموعة من الدول على رأسها دولة مالي التي يحتل جيشها المرتبة الثالثة في جيوش الإيكواس، وبوركينا فاسو التي يقع جيشها في المرتبة الخامسة ضمن جيوش المجموعة، ولديها الكثير من حركات الدعم المحلية التي تساند القوات المسلّحة. وأمام هذه الضغوط نزلت “الإيكواس”، بسقف المطالب، وأصدرت يوم 14 ديسمبر 2023 بيانا أعلنت فيه اعترافها بوقوع الانقلاب، وأن محمد بازوم لم يعد رئيسا للبلاد، وشكلت لجنة رئاسية للتفاوض مع المجلس العسكري في نيامي.
ورغم تفاوت آثار عقوبات “الإيكواس” من دولة إلى أخرى، إلا أن الضرر الذي تسببت فيه العقوبات طال شعوب الدول الثلاث، لا القادة في الحكم، وهو أسلوب اعتمدته الدول الغربية، في محاولة لإضعاف الحكومات غير الموالية لها.
سيناريوهات تفكك “الإيكواس”
يعد قرار الإنسحاب من الإيكواس مؤشرًا خطيرًا على مستقبل هذا الكيان، ويرى عدد من المحللين السياسيين أن الحلف الثلاثي المنسحب، قد يعجّل بتفكك وانهيار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، خاصة أن الاعتقاد السائد بأن فرنسا تتلاعب بمجموعة (الإيكواس) وغيرها من الكيانات الإقليمية فى القارة يزيد من عدم الثقة الدول الراغبة فى التخلص من النفوذ الغربي في هذه التجمعات، ووفقا لهذا التصور نكون أمام سيناريوهين:
السيناريو الأول:
انضمام هذه الدول إلى التكتلات التي تدشنها الصين وروسيا فى المنطقة لاسيما أن هاتين الدولتين تعتمدان سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، مثل الاتحاد الكونفدرالي الموحد للدول الأفريقية التى تسعى روسيا لتدشينه ليضم (بوركينا فاسو وتشاد واريتريا وغينيا ومالي والنيجر والسودان).
والسيناريو الثاني:
إنشاء تحالف جديد يكون عبارة عن مزيج من الجهود العسكرية والاقتصادية بين الدول الثلاث، ويسمح ميثاقه بانضمام أي دولة تشترك في نفس الحقائق الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية وتقبل بأهداف التحالف، وفي حالة تحقق أي من هذين السيناريوهين، قد تضطر المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا إلى الحفاظ على كيانها و تعويض انسحاب الدول الثلاث (بوركينا فاسو ومالي والنيجر)، عن طريق السماح بقبول انضمام عضوية دول أخرى إليها، وفى هذه الحالة سيكون المغرب والجزائر أبرز المرشحين للحصول على عضوية “الإيكواس”.