في قلب الخرطوم، داخل متجر للتحف، بدأت فصول قصة تجسس دولية متشابكة، حين دخل زائر غريب الأطوار حياة سيدة سودانية لم تكن تعلم أنها على موعد مع القدر.
لقاء في متجر تحف
الزائر لفت انتباه صاحبة المتجر بصورة معلقة لعسكري رفيع المستوى، لتعرّف نفسها بأنها أرملته، وتضيف بحسرة أنه لو امتد به العمر، لكان رئيساً للسودان.
كانت زينب مصطفى تتحدث عن زوجها الراحل الهادي المأمون المرضي، مؤسس التنظيم الإسلامي في الجيش، والذي تولى منصب وزير الأشغال بعد انقلاب “الإنقاذ” في العام 1989، لكن القدر لم يمهله طويلاً.
الزائر الغامض
لم تدرك زينب خطورة هذا الزائر، الذي كانت تبحث عنه أجهزة مخابرات دولية، وعلى رأسها المخابرات الفرنسية، التي تسعى لاعتقاله أو القضاء عليه لاتهامه بقتل رجلي أمن فرنسيين في العام 1975.
تطورت العلاقة بين الزائر وزينب، وكشف لها في إحدى زياراته أنه سياسي مهم، ويرغب في لقاء الرئيس عمر البشير أو الدكتور حسن الترابي، مقدماً لها كتاباً بعنوان “حتى نهاية العالم” ليوصل إلى مكتب الترابي.
رسالة إلى الترابي
نفذت زينب الطلب، وقابلت الدكتور المحبوب عبد السلام، مدير مكتب الترابي، ونقلت إليه الرسالة، فوضع المحبوب الكتاب بين يدي الترابي الذي استفسر عما إذا كان ديفيد يالوب موجوداً، ليجيبه المحبوب: “لا، الموجود هنا هو كارلوس”.
كان لاسم كارلوس وقع خاص، فهو الاسم الحركي للفنزويلي إيليتش راميريز سانشيز، الذي اشتهر بعملية خطف وزراء “أوبك” في فيينا عام 1975، بتوجيه من القيادي الفلسطيني وديع حداد، وبإيعاز من معمر القذافي.
كارلوس في قبضة السودان
المحبوب عبد السلام كان على دراية كاملة بقصة كارلوس، حيث تولى الترجمة في المفاوضات المعقدة بين المخابرات الفرنسية والسودانية، والتي انتهت بتسليم كارلوس إلى فرنسا في أغسطس (آب) 1994، ليقضي بقية حياته في أحد سجونها.
شهد المحبوب لحظات كارلوس الأخيرة في السودان، نقله إلى “مكان آمن” بحجة حمايته، ثم تسليمه للفرنسيين، الذين استقلوه طائرة متجهة إلى باريس.
حياة كارلوس السرية
في الثمانينات، تنقل كارلوس بين عواصم أوروبا الشرقية، لكن أجهزة الأمن واجهت صعوبة في السيطرة عليه بسبب نمط حياته الصاخب. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، لم تعد تلك الملاذات متاحة.
استخدم نظام حافظ الأسد كارلوس في عمليات في فرنسا ولبنان، قبل أن يطلب منه المغادرة لتحسين صورته مع الغرب. القذافي فضل لاحقاً صداقة أبو نضال على صداقة كارلوس، والأردن أيضاً طالبه بالمغادرة، لتكون وجهته التالية السودان.
درس في الصبر
متابعة ملف كارلوس علمتني درساً في الصبر. على مدى عقدين، ظل ملف هذا الرجل الشائك مفتوحاً على طاولة ضابط المخابرات الفرنسي فيليب روندو، الذي سافر إلى بلدان كثيرة للاقتراب منه ونقله إلى السجن الفرنسي.
بينما كان كارلوس يمارس الرياضة في مسبح “الفندق الكبير” في الخرطوم، كان سائح مزيف يلتقط له صوراً، كان هذا “السائح” هو فيليب روندو.
شهادات متضاربة
شاءت الأقدار أن أحاور الترابي وكارلوس. قال الأول إن كارلوس “جاءنا من بلاد قريبة من بلادكم”، قاصداً الأردن، بينما زعم الثاني أن الترابي والبشير باعاه في صفقة مع فرنسا، لتتضاعف أسئلتي.
- ما هي قصة الفنزويلي كارلوس مع السودان؟
يجيب الدكتور المحبوب عبد السلام، الذي كان المترجم بين جهازي الأمن السوداني والفرنسي، بأن كارلوس وصل إلى السودان في العام 1993 قادماً من الأردن، بجواز سفر يمني جنوبي مزور، وأمضى عاماً كاملاً في البلاد.
اكتشاف كارلوس
السودان اكتشف وجود كارلوس بعد دخوله أراضيها، وكانت، كما وصفها الترابي، “هدية مسمومة” من الأردن، ليقضي السودانيون عاماً كاملاً في محاولة إقناعه بمغادرة البلاد.
- هل التقيت كارلوس؟
يجيب المحبوب: “في اللحظة الأخيرة، عندما كان في المستشفى وعندما سُلِم إلى الأمن الفرنسي في المطار”.
الأمن السوداني وكارلوس
- هل يعقل أن أجهزة الأمن السودانية احتاجت إلى كل هذا الوقت لتكتشف أن هذا الرجل هو خاطف وزراء “أوبك”؟
يوضح المحبوب أن الأمن السوداني لم يكن على دراية بتفاصيل قضية كارلوس كالأمن الأردني أو الليبي أو السوري، لعدم تماس السودان المباشر بقضايا الصراع في المنطقة.
محاولات كارلوس
كارلوس كان يتردد على النادي الأرمني في الخرطوم، وحاول مقابلة الترابي في مكتبه، لكن الحرس لم يكونوا على علم بهويته الحقيقية.
الترابي علم بوجود كارلوس بعد أشهر من وصوله، من خلال الأجهزة الأمنية، لكنه لم يلتق به قط، حيث كان ملفه أمنياً بحتاً، على عكس ملف أسامة بن لادن، الذي كانت تربطه علاقات اقتصادية وإسلامية بالخرطوم.
لقاء عابر
- هل التقى كارلوس بن لادن في الخرطوم؟
يجيب المحبوب بأنه لا يعلم، لكن كارلوس ذكر أنه التقى بن لادن مصادفة وتبادلا التحية من بعيد.
- هل صحيح ما قاله كارلوس بأن الترابي والبشير باعوه؟
يرى المحبوب أن تقدير كارلوس لوضع السودان قد يختلف عن فهم السودانيين أنفسهم، فقد كان يظن أن النظام في السودان سيقبله ويستفيد من خبراته، كما فعلت إيران، لكن السودان لم يكن في وضع يسمح له بمواجهة العالم بسبب هذه القضية.
نوايا كارلوس
كارلوس قدم نفسه كمسلم، وحاول بيع خبراته أو وضعها في تصرف نظام البشير، لكن الترابي لم يلتق به قط، بحسب تأكيد المحبوب.
- هل كان مرتضى بوتو من الذين يذهبون إلى السودان؟
يشير المحبوب إلى أن السودان استضاف مؤتمراً للحركات الإسلامية بعد حرب الخليج، حضره ياسر عرفات ونايف حواتمة وراشد الغنوشي وقادة إسلاميون آخرون.
اقتراح بتدمير أمريكا
- كارلوس قال إن أول من اقترح مهاجمة برج في أميركا هو مرتضى بوتو؟
يشير المحبوب إلى أن اللقاءات كانت علنية وأمام وسائل الإعلام، إضافة إلى لقاءات أخرى سرية، مثل لقاء أنور هدام بالمخابرات الفرنسية بوساطة الترابي.
فيليب روندو
- ماذا تقول عن فيليب روندو؟
يصفه المحبوب بأنه شخصية استثنائية، ولد في تونس، ويتقن عادات المسلمين، ويحمل دكتوراه في علم الاجتماع، وله علاقات وثيقة بالمخابرات العربية.
روندو كان يصف المخابرات العراقية بأنها تنطلق من أفكار، والجزائرية بأنها لا تستطيع أن ترى إلا ما تريد أن تراه، ولديه معرفة عميقة بالمخابرات المصرية.
مطاردة استمرت 20 عاماً
روندو أمضى 20 عاماً يطارد كارلوس، لكنه لم يتمكن من الاقتراب منه لأسباب قانونية، إلى أن بدأت عملية تسليم كارلوس للفرنسيين بعد 4 أشهر من وجوده في السودان، بعد زيارة نافع علي نافع لفرنسا.
المحبوب كان المترجم في هذه العملية الحساسة، نظراً لثقته وأمانته.
فتوى الترابي
الترابي أفتى بضرورة تسليم كارلوس لكون السودان موقعاً على اتفاقية “الإنتربول”، بينما عقد لقاء مع شارل باسكوا بهدف إعادة كارلوس إلى الأردن، لكن الأردن اعتذر عن عدم قبوله.
السودان كان في وضع حرج ويريد التخلص من كارلوس، لكنه لم يحصل على معلومات منه، لأن كارلوس كان يدرك أن معلوماته قديمة.
الضيف الأصعب
كارلوس كان الضيف الأصعب على السودان، نظراً لاهتمام العالم به ومطالبة فرنسا بتسليمه.
بعد استحالة خروجه من السودان، قدمت له عروض للذهاب إلى دول أخرى، لكنه كان يخشى المرور بمناطق خطرة.
الزواج في السودان
كارلوس ربما تزوج في السودان من سيدة سودانية، وقدم نفسه للأمن السوداني عن طريقها، طالباً التعاون.
خطة التسليم
بمجرد استعداد السودان لتسليم كارلوس، بدأت المخابرات الفرنسية في الإعداد، وطلبت من السودان عدم الإعلان عن الخبر إلا بعد دخول الطائرة الأجواء الفرنسية.
كارلوس نُقل إلى مستشفى ابن خلدون لإجراء عملية دوالي، حيث تم تخديره، ونقله مدير العمليات في الجهاز السوداني، الدكتور مطرف صديق، إلى مكان آمن.
لحظات التوتر
في ذلك اليوم، كان المحبوب في مكتب نافع علي نافع يسود جو من التوتر، قبل أن يتم العثور على كارلوس في المستشفى.
المحبوب قام بالترجمة قبل نقله إلى الطائرة، وشاهده وهو ينقل، لتنتهي بذلك قصة كارلوس في السودان.
السودان حصل على بعض المساعدة في التدريب على الأجهزة الحديثة من فرنسا مقابل تسليم كارلوس.
بن لادن في السودان
يذكر روندو في مذكراته أن كارلوس استيقظ في الطائرة، بينما كان وجود أسامة بن لادن في السودان يشكل إحراجاً كبيراً للبلاد.
في البداية، كان بن لادن مستثمراً في بعض المشاريع، لكن بعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في 1995، تغيرت السياسة، وأصبح التخلص منه ضرورة.
الإذعان التام
علي عثمان محمد طه كان مع الإذعان التام لمتطلبات المجتمع الدولي، وكان لابد من إخراج أسامة بن لادن لتمر العاصفة.
بن لادن اشتكى من أسلوب التعامل معه بعد خروجه من السودان، وأخبر السلطات السودانية أن خروجه لن يحميهم من الغرب.
قضايا فقهية
الترابي كان يحاور بن لادن في قضايا فقهية، ويحاول دفعه في اتجاه التجديد، لكن الظروف زادت من تطرفه.
بن لادن كان يدرب أناساً من “القاعدة” في مزارعه ومعسكراته، لكن كان نشاطاً محدوداً جداً.
وساطة الترابي
صدام حسين أوفد فاروق حجازي لترتيب لقاء مع أسامة بن لادن بوساطة الترابي، واستخدم هذا اللقاء لاحقاً لتبرير الغزو الأميركي للعراق.
فشلت هذه الوساطة، لكنها فتحت الباب لعلاقات كبيرة بين المخابرات السودانية والعراقية.
ثمن باهظ
السودان يدفع حالياً ثمن سياسات “الإنقاذ” التي استوردت فكرة الميليشيات، والتي أدت إلى الحرب الحالية، إضافة إلى استقبال ضيوف من أمثال كارلوس وبن لادن.


