فشل تجربة الامتحانات بنظام “الاختيار من متعدد” يستلزم العودة للأسئلة المقالية
بشجاعة كبيرة عهدتها فيه دائمًا، أنا وكل من يعرفه، كشف د. إسماعيل جمعة، الأستاذ المتفرغ بكلية التجارة بجامعة الإسكندرية، عن الآثار السيئة التي ألمّت بالعملية التعليمية بمختلف الجامعات والمعاهد، وأدت إلى تدني مستوى الطلاب بشكل خطير جدًا، بسبب بدعة ما يسمى بالكتاب الإلكتروني، التي تسببت بشكل قاطع في تردّي العملية التعليمية، خاصة في الجامعات والمعاهد، بعد أن تسببت في انصراف الأجيال الحالية عن قراءة محتويات المقررات إلكترونيًا من على المنصات المختلفة، لأنهم لم يتعودوا على ذلك طوال السنوات الماضية.
كما أن طبيعة هذه الأجيال الحالية أيضًا لا تهتم كثيرًا بقراءة المقررات الإلكترونية من على شاشات الكمبيوتر أو اللابتوب أو حتى جهاز المحمول، بل تفرغوا في البحث عن ملخصات مخلة للمواد التي يدرسونها، فيما لا تزيد عن عدة وريقات قليلة في المادة الواحدة، يعدها لهم محترفون في تلخيص هذه المواد، خاصة في الكليات النظرية، من خلال مكاتب لا علاقة لها بالتعليم الجامعي. مما جعل الأمور تصل إلى حد الكارثة التعليمية، بعد أن تفرغ معظم الطلاب إلى كيفية تحصيل درجات فقط، وليس الاطلاع والإلمام بتفاصيل المنهج — وهو ما جعل بعض الدول الأوروبية تنصرف عن فكرة الكتاب الإلكتروني هذا، وتعود مرة أخرى إلى الكتاب الورقي لشرح المواد باستفاضة للطلاب، وأن يكون لديهم مرجع ورقي يعودون إليه.
أما نحن فما زلنا مصرين على تطبيق هذه التجربة التي نلاحظ آثارها السلبية على طلابنا وعلى العملية التعليمية رأي العين، ولذلك نطلب من المجلس الأعلى للجامعات أن يعيد تقييم تجربة الكتاب الإلكتروني بالجامعات والمعاهد، والآثار السلبية التي ترتبت على هذا الشكل من التعليم، حتى لا تزداد الأمور سوءًا عمّا هي عليه الآن — لأن الكتاب الإلكتروني الجامعي ليس مثل الصحيفة الإلكترونية التي نطلع عليها يوميًا، لمن يحب من هذا الجيل الاستزادة من الثقافة العامة والإلمام بالأحداث الجارية — وهو شكل جيد جدًا من الصحافة الحديثة — لكن الكتاب الجامعي يختلف تمامًا عن ذلك، حيث لا بد أن يداوم الطلاب على الاطلاع عليه، وعلى المواد الموجودة به أكثر من مرة لاستيعاب المعلومات الهامة، وضرورة العودة لأكثر من مرة لهذه المواد حتى يلمّوا بمحتوى المقرر — وهو ما لم يألفه طلاب هذه الأجيال الحالية من خلال الكتب الإلكترونية، والتي قد تدفع الكثيرين منهم إلى إعادة طبع الكتاب الإلكتروني الموجود على منصة كليته مرة أخرى حتى يستطيع الاستذكار منه.
ويضيف د. إسماعيل جمعة أن هناك مأساة أخرى تضر بالعملية التعليمية، وتساهم في تدني مستوى الطلاب التعليمي، سواء بالجامعات أو المعاهد، وهي البدعة الثانية، والتي يُطلق عليها “نظام الاختيار المتعدد” في الامتحانات، وهي الاختبارات التي تقوم على الاختيار من بين خيارات متعددة، والتي حرمت الطلاب من إمكانية أن يكتبوا الإجابات بأيديهم، ويعبّروا فيها عن قدرتهم على فهم محتوى المقرر.
كما تسببت في زيادة نسبة الغش بين الطلاب، وأيضًا لجوء معظم الطلاب إلى “التنشين” في عملية الاختيار دون إلمامهم بحقيقة الإجابة الصحيحة. وقد تتسبب هذه الطريقة في تحصيل العديد من الدرجات لطلاب لا يعلمون كيف حصلوا عليها.
ولذلك يجب علينا دون إبطاء إعادة النظر، قبل فوات الأوان، في العملية التعليمية، سواء في نظام الكتاب الإلكتروني أو نظام الاختيار من متعدد في الامتحانات، حتى نحافظ على مستوى التعليم الجامعي، بعد أن أصبح الطلاب يخرجون الآن وهم لا يجيدون الكتابة بأيديهم لأي موضوعات، خاصة في الكليات النظرية، وفي مقدمتها كليات الحقوق، التي تتطلب تدريب الطلاب على كيفية إعداد مذكرات الدفاع في القضايا المختلفة.
ولم يعد لدى الطلاب سوى معلومات سطحية عن المواد التعليمية المقررة عليهم. أضف إلى ذلك الخلل الذي حدث في شخصية الطالب نفسه، وعدم قدرته على التفكير المنطقي، والتعبير عن نفسه بأسلوب متحضّر، لذلك لا بد من العودة إلى نظام الأسئلة المقالية بنسبة كبيرة، خاصة في الكليات النظرية، حتى نكشف عن قدرة الطلاب على مدى استيعابهم للمقررات بشكل جيد، ومدى قدرتهم على التعبير عمّا استوعبوه من خلال هذه الأسئلة المقالية.
أما د. حامد نصار، نائب رئيس جامعة قناة السويس السابق، فيفجر هو الآخر قضية أخرى غاية في الخطورة، خاصة بالكتب الإلكترونية الحالية، وهي أنه في عصر الذكاء الاصطناعي حاليًا، أصبحت معظم هذه الكتب الإلكترونية من الممكن تكوينها من خلال هذه التقنية، ولم يعد الكتاب الجامعي نتاج تأليف أستاذ المادة، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الأساتذة يستطيعون تأليف مقررات في تخصصات غير تخصصهم، من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي الخطيرة هذه، وأصبح من الصعوبة اكتشاف ذلك، مما سيخلق أجيالًا من الأساتذة تقوم بتدريس مواد ليست من إنتاجهم، بل من إنتاج تقنية الذكاء الاصطناعي المرعبة، التي أصبحت تربك العالم كله الآن.
وأصبح لدينا الكتاب الإلكتروني “الملعون” — كما يقولون — وهو الكتاب الذي ليس من تأليف البشر، بل من تأليف الذكاء الاصطناعي، مما أصبح يهدد العملية التعليمية بالكامل في مختلف الجامعات.
ويضرب د. حامد نصار مثلًا على ذلك بحوار دار أمامه هو شخصيًا، عندما سأل رئيس القسم أحد أعضاء هيئة التدريس: “متى ستقدم نسخ الكتب الإلكترونية للقسم لاعتمادها؟”
قال العضو: “ما هي مقرراتي؟”
قال له رئيس القسم: “مقررات س، ص، ع.”
قال العضو: “غدًا إن شاء الله.”
طبعًا أي مشاهد عادي للموقف — كما يقول د. نصار — سيدهش: كيف لشخص أن يؤلف في يوم واحد ثلاثة كتب، علم أسماءها (س، ص، ع) للتو، في حين كان المعتاد أن يأخذ تأليف الكتاب الواحد بضع سنوات؟
ويجيب د. نصار: السر طبعًا هو أن العضو سيستخدم أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الذي يمكنه أن يؤلف ليس فقط 3 كتب، بل العشرات في يوم واحد! يكفي أن تعطي التطبيق المحتويات، وعدد الصفحات المطلوبة، وعدد الأسئلة المطلوبة لبنك الأسئلة مع إجاباتها التفصيلية، فتجد الكتاب وبنك أسئلته أمامك في دقائق.
الأكثر إغراء — والحديث ما زال على لسان د. حامد نصار — أن بيع الكتاب الإلكتروني بات مضمونًا على المنصة، التي تأتي للأستاذ بأرباح هائلة، معفاة من الضرائب والمستقطعات، ويضعها في حسابه البنكي، دون أن يتكبد حتى عناء الذهاب للصراف، الذي ربما كانت ستضايقه أيضًا نظراته للنقود وهو يناولها للأستاذ رزمة تلو الأخرى!
أضف لذلك أن أحدًا لم يعد بحاجة لبذل أي مجهود في بحث أو قراءة أو كتابة لتأليف الكتاب. أي أموال طائلة بلا مجهود، ولكن طبعًا الضحايا هم الطلاب المساكين، الذين تحوّلت نظراتهم للأستاذ الجامعي من الإعجاب والتقدير والانبهار… إلى الشفقة والحسرة والاحتقار!
لذلك نحن نطلق من هنا — بعد الذي كشفه كل من د. إسماعيل جمعة ود. حامد نصار — استغاثة إلى المجلس الأعلى للجامعات، وأنا أتفق معهما تمامًا، من خلال ما لمسته في العديد من الجامعات والمعاهد التي أقوم بالتدريس فيها، وأقول:
أرجوكم… تحلّوا بالشجاعة في بحث هذه القضية الخطيرة، ومدى تأثيراتها المدمّرة على العملية التعليمية، واتخذوا القرار الصائب في هذا الشأن.
لأنه ليس عيبًا أن نكون قد بدأنا تطبيق تجربة الكتاب الإلكتروني أو الامتحانات بنظام “الاختيار من متعدد”، لكن عندما وجدنا لها هذه الآثار المدمّرة، سواء على العملية التعليمية، أو على مستوى طلابنا، أو على مستوى البحث العلمي… يجب أن نعيد النظر فيها ونتخذ القرار الصائب.
أرجوكم… افعلوا ذلك قبل فوات الأوان.