في قلب الخرطوم، رفض الفنان السوداني القدير أبو عركي البخيت مغادرة منزله رغم القصف والمعارك العنيفة التي شهدتها المنطقة. ظل صامداً مع ابنه فارس، متشبثاً بالأمل في وجه الموت اليومي، ومسجلاً موقفاً وطنياً وإنسانياً شجاعاً.
صمود في وجه الحرب
في ذروة الاشتباكات، اتخذ أبو عركي وابنه قراراً بالسكن في غرف منفصلة، تحسباً لأي طارئ، ليتمكن أحدهما من إنقاذ الآخر. هذا الموقف وثقه الفنان بقصائد مؤثرة، تعكس هول المأساة وتساؤلات السودانيين عن مصدر هذا الخراب.
لم يكن صوت أبو عركي مجرد صدى لخوف شخصي، بل تعبيراً عن معاناة الملايين. رغم إلحاح الأهل والأصدقاء، رفض مغادرة الوطن في محنته، معتبراً ذلك خيانة للمبادئ والقيم الوطنية.
الفن رسالة سلام
أبو عركي البخيت، قامة فنية سودانية، عرف بمواقفه المناهضة للحرب ودفاعه عن قضايا الشعب. لطالما غنى للحرية والسلام، معبراً عن آمال وآلام السودانيين، ومحركاً وجدانهم داخل وخارج البلاد.
الحرب لم تكن مجرد تجربة شخصية لأبو عركي، بل محطة لتوثيق الواقع المرير، والتعبير عن رؤيته النقدية تجاه المسؤولين عن هذه الكارثة. لم تفارق دارفور قلبه، فوصف ما يحدث هناك بأنه مأساة إنسانية.
زيارة في زمن الحرب
زارت “الشرق الأوسط” الفنان في منزله بحي العرضة، حيث كان يقيم رغم المخاطر. وخلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع على العاصمة، لم يهرب أبو عركي، بل بقي صامداً، وكان عناصر الدعم السريع يزورونه في منزله ويتحدثون معه.
وبعد عودة الجيش، استمر الوضع على ما هو عليه، حيث كان جنود الجيش أيضاً يزورونه، تقديراً لمكانته الرفيعة في المجتمع السوداني، ليصبح أبو عركي نقطة توافق بين الأطراف المتنازعة.
أيقونة فنية وطنية
ولد أبو عركي البخيت في ود مدني عام 1947، وانتقل لاحقاً إلى الخرطوم، حيث بدأ نجمه في الصعود. قدم عشرات الأغنيات التي شكلت جزءاً من الذاكرة الجمعية للسودانيين، مثل “بخاف” و”واحشني” و”عن حبيبتي بقول لكم”.
شكل أبو عركي ثنائياً فنياً وإنسانياً مع زوجته الشاعرة الراحلة عفاف الصادق، التي رثاها بأشعار مؤثرة. وفي قصيدته “نفسنا طويل وما بنتعب”، وثق لحظات اندلاع الحرب، وانتقد النخب السياسية، مؤكداً أن الاعتراف بالأخطاء ضرورة للإصلاح.
رسالة إلى دارفور
لم ينس أبو عركي دارفور، فوصف ما جرى هناك بأنه “كارثة من ناس مشبعين بالشر”، وانتقد من غادروا الإقليم وتركوا أهلهم يواجهون المصير المجهول.
ووصف المطرب عبد القادر سالم، أبو عركي بأنه فنان عظيم يقف إلى جانب الضعفاء، ويحظى باحترام الجميع، بمن فيهم الجيش وقوات الدعم السريع، الذين كانوا يزورونه خلال الحرب.
“عزة في هواك”
أبو عركي نحت على بوابة منزله النوتة الموسيقية لأغنية “عزة في هواك”، الأغنية الوطنية الشهيرة للشاعر خليل فرح، ليعبر عن حبه للوطن.
وخلال الحرب، كان يرى في اقتراب الحمام منه بشارة بقرب السلام، لينثر الأمل ويغني للحياة في وجه الموت، ليظل أبو عركي في عيون محبيه “فناناً لا يخاف، وإنساناً لا يساوم، وصوتاً لا ينكسر”.