قبل قرنين، كانت أميركا اللاتينية تشهد ثورات ضد الحكم الاستعماري الإسباني، مما مهّد الطريق للاستقلال. وفي خضم هذه الاضطرابات، عبّر الرئيس الأميركي الخامس، جيمس مونرو، عن قلقه من احتمال استغلال القوى الأوروبية لفراغ السلطة في مناطق أميركا الوسطى والجنوبية. لذلك، أرسل رسالة إلى الكونغرس في 2 ديسمبر 1823، دعا فيها لضمان استقلال دول النصف الغربي من الكرة الأرضية أمام أي تدخل أوروبي، مع الحفاظ على الوضع القائم للمستعمرات الأوروبية. وقد عُرفت هذه الرسالة لاحقًا بمبدأ مونرو، أو عقيدة مونرو، حيث أشار فيها إلى أن أي محاولة لتوسيع النفوذ الأوروبي في هذه المناطق تُعد تهديدًا للسلام والأمن الأميركيين.
تاريخ مبدأ مونرو
مع تصاعد قوة الولايات المتحدة، استخدمت الإدارات المتعاقبة مبدأ مونرو كأداة هجومية بدلًا من الاعتماد عليه كدرع دفاعي. ففي عام 1845، استدعى الرئيس الحادي عشر، جيمس ك. بولك، هذا المبدأ لضم ولاية تكساس. وفي العام التالي، أطلق مزيدًا من الخطوات لتبرير حرب مع المكسيك، مما أسفر عن توسيع الأراضي الأميركية لتشمل كاليفورنيا وجنوب غرب البلاد. وفي عام 1867، استخدم الرئيس السابع عشر، أندرو جونسون، المبدأ نفسه لشراء ألاسكا من روسيا.
الرئيس الثامن والعشرون، وودرو ويلسون، عرّف عصبة الأمم كهيئة دولية تروج للسلام بعد الحرب العالمية الأولى، مستندًا إلى جزء من مبدأ مونرو يتعلق بالأمن الجماعي. وأكد على ضرورة تبني الدول لهذا المبدأ كي لا تسعى أي دولة لتوسيع نطاق سياستها إلى دول أو شعوب أخرى.
ترمب والتوجهات الجديدة
أثار الرئيس السابق، دونالد ترمب، الجدل بتصريحاته حول غرينلاند وكندا وبنما وخليج المكسيك، الذي أطلق عليه اسم خليج أميركا. مواقف ترمب تعكس تطور نفوذ الولايات المتحدة على مدار القرنين الماضيين، حيث تظل القوة العظمى السائدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. كما أنه يعبّر عن حق القوة الكبرى في تحقيق مصالحها دون اعتبار لمواقف الآخرين.
تجدر الإشارة إلى أن ترمب أبدى اهتمامًا خاصًا بغرينلاند، حيث أعاد التأكيد على حاجة الولايات المتحدة للسيطرة على الجزيرة. ولقيت مقترحاته، بما في ذلك الرغبة في تحويل كندا إلى ولاية أميركية، ردود فعل حادة، إذ اعتبر رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، أن هذه التصريحات تمثل تهديدًا يستوجب أخذها بجدية.
بنما والتأثير الصيني
فيما يتعلق بقناة بنما، تشير الأحداث إلى القلق الأميركي من الاستثمارات الصينية في المنطقة. وبينما لم يكن هناك وجود عسكري صيني في القناة، إلا أن الصين تسيطر على موانئ رئيسية من خلال شركة مقرها هونغ كونغ. ممّا دفع الولايات المتحدة إلى الضغط على الحكومة البنمية للانسحاب من مبادرة «الحزام والطريق» الصينية. وقد تزامن ذلك مع زيارة وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، لبنما، مما يعكس استجابة الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الصيني.
وجاء قرار بنما بالانسحاب بعد تلك الزيارة، متزامنًا مع خطوات تعزز من موقف الولايات المتحدة في المنطقة، خصوصًا مع وجود مخاوف من هيمنة الصين على الممرات البحرية الحيوية.
غرينلاند وأهميتها الاستراتيجية
تتمتع غرينلاند بمساحة تبلغ مليونين و166 ألف كيلومتر مربع، وتعتبر أكبر جزيرة في العالم. وتقع بين المحيط المتجمد الشمالي والأطلسي، ويعيش فيها نحو 60 ألف نسمة، يتمتع معظمهم بإتقان اللغتين الدنماركية والإنجليزية. وعلى الرغم من أن غرينلاند تتبع التاج الدنماركي، فإن لديها حكمًا ذاتيًا في الأمور الداخلية.
ترى الولايات المتحدة ضرورة السيطرة على المنطقة القطبية بسبب الاحترار المناخي وانفتاح ممرات بحرية جديدة. كما تتمتع غرينلاند بأهمية استراتيجية تعزز من موقف الولايات المتحدة في القطب الشمالي، خاصة مع تنامي رغبة الدول في التنافس على الموارد.
ردود الفعل الدنماركية
بالمقابل، تستمر الدنمارك في تأكيد موقفها الثابت بأن غرينلاند “ليست للبيع”، كما أفادت رئيس الوزراء ميته فريدريكسن. هذا الموقف يعكس تحديًا للسياسات الأميركية التي تسعى إلى إعادة هيكلة النفوذ في نصف الكرة الغربي.
بينما يبدو أن المسألة البنمية قد تُحل بسهولة، إلا أن قضيتا كندا وغرينلاند تشهدان تعقيدًا أكبر. وعليه، فإن السنوات القادمة ستشهد تطورات مهمة في هذه الديناميات.
إحياء مبدأ مونرو
يظهر إصرار ترمب على التعامل مع نصف الكرة الغربي كمجال نفوذ أميركي، تأكيدًا لمبدأ مونرو، في إطار سياسة “أميركا أولاً”. هذا المبدأ الذي تحول، منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلى واقع يتمثل في أن النصف الغربي من الأرض هو بمثابة “محمية أميركية”.
بعد حربين عالميتين وحرب باردة مع الاتحاد السوفياتي، ابتعدت واشنطن عن الحذر الذي اعتادته، وزادت من انتشار نفوذها في مختلف أنحاء العالم. ومع ذلك، فإن التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في مناطق مختلفة، وخاصة في القارة الأميركية، تتطلب استراتيجيات متفاوتة ومتعددة لتحقيق الهدف الرئيسي: الحفاظ على المصلحة الأميركية أولًا وأخيرًا.