شهدت الأسابيع الأخيرة تحولات بارزة في خريطة النفوذ الإقليمي بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث يُعتبر هذا الانهيار حلقة جديدة في سلسلة الضغوط التي تعرضت لها إيران، مما يعزز من مساعيها إلى انسحاب تدريجي من المعادلة الإقليمية التي سعت للهيمنة عليها لعقود. يثير هذا الوضع تساؤلات حول القوى التي ستحل محل النفوذ الإيراني المتراجع.
انحسار النفوذ الإيراني لم يكن نتاج هزائم وكلائها فحسب، بل جاء نتيجة سلسلة من الضغوط المتزايدة في المنطقة على مدار السنوات الماضية. فقد بدأت هذه الضغوط بمقتل قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في غارة أميركية مطلع 2020، وتواصلت عبر استهداف قيادات عسكرية إيرانية في سوريا، إضافة إلى هزائم حلفاء إيران في ما تُعرف بـ”محور المقاومة”.
تداعيات الانهيار
أدت الحروب المشتعلة، وخاصة الحرب الإسرائيلية على غزة، إلى تعزيز التوترات مع حزب الله في لبنان، وفي خضم ذلك، تم اغتيال القيادات المؤثرة في المنطقة، بما في ذلك رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، داخل إيران. ويبدو أن نظام الأسد، الذي كان أحد أبرز حلفاء طهران، قد فقد دعائمه الرئيسية مع تصاعد الضغوط وفقدان السيطرة.
تتزايد المخاوف من تولي الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، مهامه رسميًا في 20 يناير، حيث تصاعدت الأصوات المطالبة بتغيير النظام السوري. هذه القضايا تعكس المخاوف من تحول الأوضاع الإقليمية، مما يضيق خيارات إيران ويعيد ترتيب الأدوار.
نقاط التحول
وفقا لـ”الشرق” فإن المحللون يرون أن هذه التحولات تفتح المجال أمام ديناميكيات جديدة في الشرق الأوسط، حيث يتوقع البعض أن تلعب تركيا دورًا محوريًا. مراقبون آخرون يشيرون إلى أن هذا التطور يعكس استعداد قوى إقليمية أخرى للمنافسة على المكاسب الاستراتيجية.
يعتقد الدكتور عبد المنعم سعيد، مدير المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، أن احتمالية اندلاع حرب أهلية جديدة في سوريا قائمة، خاصة في ظل المخاطر التي قد تنجم عن هيمنة “هيئة تحرير الشام”. هذا الوضع قد يدفع قوى أخرى نحو ملء الفراغ ولعبة السياسة في البلاد.
تركيا في المشهد
أوضح سعيد أن تركيا من أبرز الأطراف القادرة على ملء ذلك الفراغ، حيث قامت بدعم الفصائل المعارضة في سوريا ولديها وجود عسكري هناك. تاريخ تركيا في المنطقة، بما في ذلك استيلائها على لواء إسكندرونة، يعكس اهتمامًا بالملف السوري.
وبينما يؤمن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بـ”العثمانية الجديدة”، يواجه تحديات كبيرة، خاصة مع موقف الولايات المتحدة التي قد تكون غير مستعدة لإقامة نظام سوري جديد تحت سيطرة قوى واحدة.
موقف واشنطن
مع ذلك، يشير سعيد إلى أن أميركا ليست مقتصرة فقط على إدارة ترمب، وقد يكون هناك رؤية أخرى لدى الدولة العميقة في واشنطن. الولايات المتحدة تحتفظ بنفوذ كبير على الأرض، خاصة مع وجود إرادة دعم للأكراد في شرق البلاد.
كما يُتوقع أن تُراقب إسرائيل الوضع بدقة، حيث قد تسعى إلى تحقيق أهدافها في الحفاظ على عدم الفوضى في سوريا، رغم عدم رغبتها في التوغل عسكريًا بشكل أكبر.
القلق العربي
رمزية التحفظ العربي تجمع خليجي مصر والأردن، الذين يسعون لتحقيق استقرار إقليمي دون اتخاذ مواقف متسرعة. التحالفات العربية تنظر بخوف إلى كيفية تأثير هذه المتغيرات على مصير المنطقة.
يُشير سعيد إلى أن تاريخ المنطقة يبين أهمية عدم ترك الفراغ، حيث كانت هناك دعوات أميركية في الماضي لضمان عدم استغلال القوى المنافسة للفرصة.
تحديات إيران
بدورها، تتجه إيران نحو محاولة إعادة بناء تحالفاتها بعد تلقيها ضربات عسكرية. يتوقع نورمان راؤول، المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية، أن يكون لدى طهران نقاط ضعف في مواجهة القوى الإقليمية التي تسعى لتعزيز نفوذها في سوريا.
يعود هذا من زيادة التأثير الاقتصادي لاستثمارات السعودية والإمارات، بينما تظل الولايات المتحدة الشريك الأمني الأول في المنطقة بسبب تاريخها ونفوذها القوي.
التوازن الإقليمي
من جهة أخرى، يرى الدكتور علي دبكل العنزي أن التمدد التركي والإسرائيلي سيستمرا، رغم انحسار النفوذ الإيراني. تتجه الدول العربية نحو إطار من التنسيق للتصدي لتحديات جديدة تطرأ على المنطقة، حيث يسعى الجميع لتحرير سوريا من الهيمنة الإيرانية.
أما أوكتاي يلماز، المحلل السياسي التركي، فإنه يشير إلى أن استعادة النفوذ الإيراني لم تعد ممكنة، حيث ستلعب تركيا دورًا رئيسيًا في التشاركية مع الدول العربية لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار.
التعاون العربي
بدوره، أكد الدكتور عبد الخالق عبد الله، أستاذ العلوم السياسية، أن الدول العربية تتجه نحو السعي للتعاون فيما بينها بدلاً من الصراع، لما يحمله ذلك من دروس مستفادة من التجربة السابقة في سوريا.
يبدو أن مرحلة ما بعد التداعيات الإيرانية في سوريا ستكون حافلة بالتعاون العربي، حيث تتداخل المصالح وتسعى نحو استقرار المنطقة في ظل تزايد التحديات.